بعض الناس يرفع شعارات لا تنسجم مع واقعه , ويتفوه بعبارات لا يفقه معناها , ويتحدث عن قضايا أكبر من حجمه و وعيه ؛ و يظن انه يحسن صنعا ؛ ومن مصاديق هؤلاء , الناس الذين صدعوا رؤوسنا بضرورة افراغ الشارع العراقي من ( التكتك والستوته والدراجة ... الخ )  في الوقت الحالي ؛ بحجة ان العراق بلد غني , وبالتالي ينبغي ان يركب العراقيون كلهم وعن بكرة ابيهم  سيارات مرسيدس المانية  او تويوتا يابانية ؛ او لا أقل سيارات حديثة  ... الخ . 

واحيانا يكون الهدف من هذه الدعوات افقار العراقي , والامعان في رفع معدلات مشاكله الاقتصادية , وليس رفع مستواه المعاشي كما يدعون ؛ تماما كما تفعل الانظمة السياسية الفاشلة والتي ترفع الشعارات الدينية او القومية والعابرة للحدود والقارات , لإلهاء الجماهير واهمال الشؤون الداخلية للبلد ؛ بحجة مقارعة العدو البعيد , فلا تستغرب من نظام سياسي يهمل شؤون بلده الواقع في قارة اسيا مثلا , بذريعة الاهتمام بقضية دينية او انسانية او سياسية في امريكا اللاتينية او قارة افريقيا . 

و دعوات هؤلاء للتلاعب بالعقول والضحك على الذقون او لإثارة الرأي العام ضد هذه الحكومة او تلك , وكلنا يتذكر الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات الجماهيرية في العراق , والتي تم اختراقها من قبل الاعداء , وكانت نتائج مطالبة الشعب بالإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد ؛ المجيء بالفاشل الكاظمي وزمرته  من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي و رجال الاعلام الذين لا يفقهون شيئا في شؤون الاقتصاد ومحاربة الفساد , وأول اجراء قام به الكاظمي ارضاءا لمن جاء به , وسانده ؛ قطع رواتب  المعتقلين والسجناء السياسيين  من ابناء الاغلبية العراقية وايقاف كافة مستحقاتهم القانونية والتي اقرتها قوانين المرحلة الانتقالية , كما هو المعمول به في اغلب دول العالم , مع الابقاء على رواتب البعثية وازلام الاجهزة القمعية والبالغ عددهم 550 الف متقاعد , على حالها من دون المساس بها ؛ ففرح البعض واعتقد ان هذا الاجراء الحكومي  يعد من الانجازات الاقتصادية الا ان الحقيقة تشير الى خلاف ذلك ؛ فقد اراد الكاظمي و زمرته بهذا القرار الجائر والفاشل , زيادة نسبة الفقر داخل دائرة الاغلبية العراقية بحجة محاربة الفساد والاصلاح ؛ فقد اضاف الى جيوش العاطلين عن العمل والمحرومين من رواتب التقاعد والرعاية شريحة جديدة ؛ بينما كان الاولى به توسيع رقعة المستفيدين من ميزانيات الحكومة وثروات العراق ؛ ولو كان صادقا فيما يدعي لألغى رواتب زبانية النظام البائد , وحاسب حيتان الفساد , وقلل من امتيازات و رواتب المسؤولين والساسة والموظفين الطائلة , وغير سلم الرواتب بما ينسجم مع العدالة الاجتماعية و تقليل الفوارق الطبقية ؛ و قد كلل جهوده الاقتصادية الجبارة وخطواته الاصلاحية الكبيرة بقانون الامن الغذائي سيء الصيت – اذ اختفى بحدود ال 30 مليار دولار بحجة الامن الغذائي - ؛ وسرقة القرن  وغيرهما من الكوارث الاقتصادية , وصدق من قال انه باع العراق ( تفصيخ ) , وحبل  فضائح حكومته على الجرار ؛ فكل يوم نكتشف جريمة جديدة  ...!! 

كذلك هؤلاء الذين يطالبون الحكومة بمطاردة اصحاب (  التكتك والستوته والدراجة ... الخ ) ومصادرة الياتهم والتضييق عليهم ؛ بحجة ان هذه الوسائل لا تليق بالعراق والعراقي ؛ او بذريعة مخالفة بعض السواق للقوانين وقواعد السير والمرور العامة ... ؛ فهذه الدعوة اشبه بكلمة الحق التي يراد بها باطل , هذا اذا احسن الظن بهم  ؛ والا فهي كلمة باطل ويراد بها باطل ايضا  . 

والذي يستمع لهؤلاء ؛ يظن ان العراق كان متطورا ومزدهرا وغنيا , وان العراقي كان ملكا ومرفها وعزيزا وامرا ناهيا يعمل بخدمته الاجانب والغرباء , ويركب افخم السيارات الامريكية والالمانية , ويسكن القصور ,  ويأكل ما لذ وطاب من الاطعمة والاغذية المحلية والمستوردة , ويلبس افضل الماركات العالمية , ويتزين بالذهب والفضة , ويسافر للسياحة والاستجمام في كل شهر مرة ...!!

يريد منا هؤلاء المبالغون او الافاكون او المغفلون  ؛ القفز على حقائق التاريخ المعاصر , وغض الطرف عن حقائق الواقع العراقي المؤلمة , والتصديق بهذه الدعوات الطوباوية والشعارات الكاذبة , فمنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 والى سقوط الصنم عام 2003 ؛  لم ير العراق والعراقيون خيرا قط ؛ فخيرات العراق تذهب الى الدول الاستعمارية والاقليمية والعربية ؛ او تنفق على الحروب والسجون والمعتقلات والمقابر والاعدامات الجماعية  وادوات التعذيب وقمع الثورات والانتفاضات الشعبية , او تذهب الى جيوب الساسة والحكام والمرتزقة من زبانية الاجهزة القمعية واصحاب الاقلام المأجورة من العراقيين الفاسدين وغيرهم من شذاذ الدول الخارجية .

طوال 83 عاما من الحكم الطائفي والعنصري البغيض ؛ ومحافظات الجنوب والوسط محرومة من الكهرباء والماء الصالح للشرب والبنى التحتية والحياة الكريمة , فقد كانت السيارة بسعر البيت بل أغلى منه احيانا , واغلب العراقيين كانوا تحت خط الفقر : بلا سكن ولا وظيفة ولا راتب تقاعدي يكفي لسد الاحتياجات , ولا امان  ولا استقرار , فقد خلفت تلك الانظمة القمعية الدموية وراءها جيوش جرارة من المرضى والفقراء والعاطلين عن العمل والبائسين والمشردين والمعاقين والمصابين بمختلف الامراض النفسية والعقلية والايتام والارامل والسجناء والمعتقلين والجهلة والمتخلفين  ... الخ .

تصور عزيزي القارئ ان شوارع العراق والى عام 2003 كانت تسير فيه سيارات رديئة وقديمة ( سكراب ) تعود لحقبة العهد الملكي , وان محافظة النجف الاشرف لا توجد فيها غير 5000 الاف سيارة فقط , واغلبهن موديلات قديمة ومتهالكة (دك النجف ) ؛ واما سيارات المرسيدس القليلة فهذه من حصة صدام و زبانيته فقط , و كان العراق العظيم  من شماله الى جنوبه  لا  يوجد فيه  اكثر من 141 الف سيارة فقط عام 2003 ؛ ولا زلت اذكر ان اغلب السيارات كانت عندما تسير في الشارع تخلف وراءها سحب من الدخان الاسود الكثيف , وكان رؤية السيارات العاطلة في الشوارع أمرا مألوفا لدى العراقيين , واما باصات النقل العام , قليلة ورديئة وغير مريحة , ويقف الناس فيها كأنهم اسرى حرب من شدة الازدحام , وعلى الرغم من قلة السيارات فرض النظام الجائر قانون الزوجي والفردي للسيارات ؛ وذلك لعدم انسيابية سير السيارات في الشوارع وما ينتج عنه من ازدحامات خانقة ؛ بسبب انهيار البنى التحتية وانعدام النظام وقلة الشوارع المعبدة بصورة صحيحة وكثرة الشوارع المتضررة  , وكانت عربات الخيول والحمير تجوب شوارع بغداد والمحافظات كافة ؛ وهذا الذي ذكرته  لك عزيزي القارئ  يعتبر غيضا من فيض  ؛ وبعد عقود الجوع والحرمان والبؤس والتخلف والامية والجهل في العهد الملكي , وبعد ايام العنف ومسلسل الدم والانقلابات العسكرية والحروب والويلات في العهد الجمهوري ؛ وبعد السنوات العجاف واعوام الحديد والنار والارض المحرقة واجرام صدام وارهاب البعث ؛ يخرج لنا احدهم ويدعي ان العراق كان غنيا وان العراقي لا يليق به ان يركب ( التكتك) الهندية  او سيارة ( السايبا ) الايرانية ...؟!

نعم كلنا نطمح ان يكون العراق اعظم دولة , وان يعيش العراقيون في بحبوحة ورفاهية ؛ وان لا نستورد من الخارج  الا الصناعات الجيدة والمعروفة بجودتها وعمليتها وملائمتها للأجواء العراقية ؛  الا ان الواقع شيء والاماني شيء اخر مختلف تماما ؛ وصدق شاعرنا المتنبي عندما قال :

ما كلُّ ما يتمنى المرء يدركهُ تجري ***  الرياح بما لا تشتهي السُّفنُ.

فالأوضاع الاقتصادية الحالية في العراق ؛ تحتم علينا تنويع مصادر الدخل وكذلك تعدد وسائل المواصلات - ( بدءا من الطيران العام والطائرات الخاصة وطائرات الاجرة الخاصة , مرورا بوسائل النقل البحري والنهري المختلفة , وصولا للقطارات والمترو  والشاحنات والباصات والسيارات , وانتهاءا بالدراجات والتكتك والستوتة وعربة الدفع ( العربانه )  ... الخ ) - ؛ فلسنا أعظم شأنا من الهند النووية ؛ اذ يوجد فيها كافة وسائل النقل بما في ذلك الدراجات الهوائية ذات العربة الصغيرة والتي تستخدم للأجرة والنقل ايضا , بل حتى ظهور الفيلة تؤجر للسياح والمواطنين  في بعض المناطق السياحية ؛ وكذلك ايران فقد رأيت عمال النظافة والبلدية يستقلون ( الستوتة ) ويعملون من خلالها , والبعض منهم يتنقل في المناطق الجبلية بواسطة البغال والحمير , والدراجات النارية هنالك تستخدم للأجرة  وعربات الخيول للسياحة , وكذلك مصر تستخدم كل هذه الوسائل بل تستخدم الجمال لنقل السياح قرب الاهرامات , وتستعمل عربات الخيول والحمير لنقل القمامة وفي العاصمة  ... الخ .

فالمسألة ليست عبارة عن شعارات ودعوات وتمنيات ؛ اذ ترتبط وسائل المواصلات بالواقع ومتطلبات السوق  وظروف العمل ؛ فلو هبطت سفن فضائية في شمال العراق ؛ لما تخلى الكردي عن وسيلته المفضلة في التنقل عبر الجبال ؛ الا وهي البغال , وكذلك (التكتك والستوتة وغيرهما من الوسائل البسيطة ) , فقد سدت فراغا في الشارع العراقي , فمن باب اختفت وسائل النقل العام كالباصات من الشوارع فضلا عن عدم وجود  مترو , وارتفعت اسعار اجور سيارات الاجرة - التكسيات - , وبسبب تخريب البنى التحتية والتجاوزات التي ادت الى ضيق الازقة والشوارع في بعض المناطق والاوحال والمياه الاسنة المنتشرة هنا وهناك , لا يقبل اصحاب ( التكسيات ) بالذهاب اليها , بينما يقبل اصحاب ( التكتك والستوتة ) بذلك ؛ وبأجور منخفضة مقارنة بأجور اصحاب سيارات الاجرة , ولان ( التكتك) اقتصادية في التصليح والادوات الاحتياطية وصرف البنزين ؛ نجحت ,  وازداد الطلب عليها من قبل الشباب العاطلين عن العمل , وبعض الشباب يجني من العمل بها يوميا 50 دينار احيانا  بينما لا يجني البعض الاخر اكثر من 10 الاف دينار , وهكذا ... الخ .

فبدلا من هذه الدعوات الطوباوية والشعارات الهلامية والتي من الصعب تحققها في الوقت الراهن وفي ظل هذه الظروف العصيبة والتحديات الخطيرة ؛ طالبوا بالمطالبات الواقعية والممكنة  ؛ كتطوير البنى التحتية لاسيما الشوارع والارصفة والانفاق والجسور والمحطات و ( الكراجات ) ... الخ ؛ وفرض النظام المروري الصارم والعملي , وتشريع القوانين التي تصب في صالح الوطن والمواطن  , مع نصب اعمدة الاشارات المرورية والكاميرات الحرارية واعمدة الإنارة واشارات السير العامة وتحديد اماكن العبور والسير والوقوف ... الخ ؛ وتوزيع دوريات  رجال المرور والامن والقانون في كل مكان , وتخفيض اسعار بيع ( التكتك) من خلال اعفاءها من الضرائب ورسوم ( الكمرك) او انشاء مصنع لها في العراق , او الزام التاجر والمستورد بوضع نسبة معقولة من الربح عليها ؛ اذ ليس من العدل والانصاف ان يربح التاجر على ( التكتك ) الواحدة اكثر من 3000 دولار , فقد بيعت بعضها بمبلغ 7 مليون دينار عراقي ...!! , وتسهيل معاملة التسجيل واعطاء الرقم المروي ؛ والا باي حق يؤخذ من الشاب اكثر من 800 الف دينار عراقي ؛ نعم تم تخفيض المبلغ فيما بعد الى 500 الف دينار  ؛ في حين ان سعر ( التكتك ) المستعمل قد يصل في بعض الاحيان الى مليون دينار فقط , والعجيب في الامر ؛ ان التاجر استوردها بعلم الحكومة , واخذت الدولة كافة الرسوم عليها , وباعها للشباب المساكين والمظلومين والمغبونين بأوراق رسمية واموال كثيرة  وارباح مجحفة , ومع ذلك تبدأ رحلة العذاب الاولى للشباب والكسبة  في مراجعة دوائر الدولة ؛ من اجل تسجيلها والحصول على رقم ؛ اذ  يعاني الشاب المراجع الامرين ؛ ويصاب بالصداع والدوار ؛ بسبب تعدد مصادر القرار واختلافها , وكثرة الاجتهادات  وتضاربها , فضلا عن الروتين والفساد المستشري في دوائر المرور وغيرها , و بعد اللتيا والتي ؛ يحصل الشاب ( المكرود) البائس على الرقم ؛ الا ان معاناته لا تنتهي عند هذا الحد , اذ تطارده الدوريات في كل مكان , بل ان بعض الاماكن محرمة عليه وممنوع دخولها من قبله , وطالما صادرت الجهات الرسمية مئات بل الاف ( التكاتك) باجتهادات شخصية و وفقا لأمزجة المسؤولين ؛ والمصيبة انها تباع مرة اخرى للمواطن البائس في المزادات الحكومية , وتناهى الى سمعي ان دراجات الشباب العراقيين المصادرة من قبل اجهزة الدولة , تباع الى نفس التاجر المستورد تحت ذريعة المزاد العام ؛ والذي يرجع يبيعه بدوره للشاب العراقي المحارب من قبل  دوائر حكومته  , مرة اخرى ...!! ؛ وكأن الامر اشبه  بتدوير المشاكل والبلاءات والعذاب والازمات ,  فهو استنزاف لمقدرات وجهود الشباب المساكين ... الخ .