قارب منتصف الليل و ما زلت أبحث و أبحث و أبحث عن جملة أو حتى كلمة لأقدم بها هذا الإفتتاح ، إفتتاح ماذا ؟ لا أعلم بعد.

الحمد لله ، فقد استطعت إيقاف قطرات عيني المالحة بعد ساعة من البكاء، لكني لم أستطع إيقاف نزيف قلبي بعد عام و ستة أشهر على زيارتي الأولى لمستودع الأموات...

لا أحد يتنفس يستطيع التحدث عن الموت، فلا جرأة و لا تجربة لأحد، وحدهم من يتنفسون تحت التراب من يستطيعون، فهُمْ من جربوا مذاق الموت، لكن يبقى السؤال المطروح : هل لنا أن نسمع صوتهم و هم يصفونها؟

لست من الدعاة و لست ممن هداهم الله فأصبح حالهم في سبيل النصح و الرشد، بل ما أنا إلا أنثى يتيمة طرق الموت باب منزلها اليوم مرة أخرى. هاتان الكلمتين لهما كل الحق في التكرار في كل سطر تنسجه أصابعي بخليط دمي و دمعي، فمرة أخرى أجد نفسي أبكي، لكن ليس على من رحل، فمن رحل لا قدرة لي على البكاء و الحزن عليه، فمنذ سنة و ستة أشهر قد شُقَّت قنينة حزني و جف بئر دمعي كله على فراق من أعطاني نسبه، بل إني أبكي على حالي، حال الشباب، حال بشر لا قدرة لهم مهما عظموا أمام الموت.

كنت أخاف الظلام، و أضحيت أخاف آلام الفراق لأجد لونه أشد عتمة من الظلام، هذا حال راشدة. فما يكون يا ترى حال أُمٍّ صعقتها المنية في قلبها بموت ابنها؟ ربما تتمنى عذاب انجابه ألف مرة و لا هي تفارقه مرة في غمرة. و ما يكون حال زوجة اليلة طارحة خصلاتها على وسادته فتستنشق رائحته و إذا بها تطرح وراءها كل أنفاسها؟ و ما حال طفل و طفلة ما زالوا ينتظرون قدوم ملك قلعتهم و إذ بالملك غادر القلعة و البلد و هم لا علم لهم أنهم سينسون نطق كلمة "بابا" كما أودى بي الحال قبل عام.

لا هي تُعلِم و لا هي تنذر، لا هي تبطئ و لا هي تنسى العنوان، تُسرِع الحضور و تأبى المرور، و تبقى بكل فخر أكثر ذكرى نتذكرها و لو أصبحت كتاريخ البلد في قدمه. قوية و لا ترحم، شيطان إذا لعنته رحل، لو لعنتها تصيبك ثانية و ثالثة حتى تهلك خاطرك، لو رجوتها تصدر حكم الإعدام بدل المؤبد عليك.

نبكي بعد الفراق و من رحل بكى على الإجتماع و ما نحن بمهتمين، نظن أننا على صواب حتى تفاجئنا المنية الحضور، فنندم على كلمة لم تُقَل فنَعٌضُّ على عُنَّابِنا حسرة، و على صدر لم نحضنه فتؤلمنا عضامنا من كثرة الإحتكاك، و على بسمة و على جماع حول مائدة الطعام و و و، لو أكملت السرد ما كانت نفسي لترتاح و لا نفس من رحل، بل كان ليرتاح رأس قلم مسودتي و كان ليجف حبر قلمي و تجف معه رسالتي "ساعة مع العائلة أثمن مما تفعله في أي ساعة". فلا أريد لأحد أن يُصدَم و يندم عندما يحين دوره في الحياة لتأدية دور اليتيم أو الأرملة، فلا قدرة لأحد أن يزور مثلي، مستودع الأموات... مرة أخرى.