قد نتقاطع بشأن العقائد والفتاوى والآراء الدينية , وفد نختلف حول الاحداث والوقائع والمرويات التاريخية ؛ الا عندما تصل النوبة الى الامام علي بن ابي طالب ؛ فالكل يعترف ويقر بضرورة الملازمة التاريخية والثقافية بين الهوية العراقية والظاهرة العلوية ؛ فعندما نذكر اسم العراق يتبادر الى الذهن ذكرى الامام علي العطرة ؛ وعندما نستذكر سيرة الامام علي ؛ يمر امام ناظرنا شريط احداث و وقائع بلاد الرافدين ؛ فالعراق الاسلامي لا ينفك عن الامام علي وبنيه ابدا , ومن بلاد الرافدين انطلقت الدعوة الاسلامية الرافضة لكل اشكال التسلط القرشي والاعرابي وقتذاك ؛ ثم الدعوة العلوية ثم الشيعية الى كافة انحاء العالم ؛ نعم البذرة العلوية زرعت في ارض الحجاز اولا الا انها رويت بدماء اسلافنا العراقيين حتى ترعرعت ونمت وتشعبت فروعها واغصانها في العراق التاريخي الذي يمتد من الحجاز الى الاهواز ؛ ومن ديار بكر الى البحر .
نعم قد أعيا العراق خلفاء و ولاة قريش ؛ الذين ارادوا تحويله الى مجرد بستان لبني امية او ضيعة من ضياع قريش , حتى ضجر الخليفة عمر من العراقيين , وقال مقولته الشهيرة فيهم : (( ... من يعذرني من أهل الكوفة، إن وليتهم التقي ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه... )) واصدر الخليفة عمر قرارات الحقت افدح الاضرار بالعراقيين الاصلاء وسكان البلد القدامى ؛ فقد اباح بيعهم ونهب اموالهم وسبي نسائهم ؛ اذ قال في سكان العراق القدامى -( النبط ) - : (( من كان جاره نبطياً ، واحتاج إلى ثمنه فليبعه )) وقد نقل هذا الخبر الخليفة العباسي المأمون عندما سمع احد العراقيين النبط ؛ يصرخ : واعمراه ؛ فدعاه المأمون وسأله عن سبب صراخه ؛ فشكى اليه مظلمة بسيطة , فقال له المأمون : ان الامر بسيط ولا يستحق كل هذه الضجة والصخب ؛ ثم سأله المأمون : أتعرف عمر بن الخطاب ؛ فأجابه : لا , فقال له : اذن لماذا استنجدت به وذكرت اسمه ؛ فقال : الناس يقولون عنه انه عادل ؛ فرد المأمون العباسي عليه : انه كان يقول في اسلافك هذا القول ؛ فبهت العراقي النبطي وانصرف ... !!
والى هذه اللحظة بعض حمقى الاغلبية و دونية الشيعة يقدسون من لا يرحمهم ويمجدون بمن يسومهم سوء العذاب ؛ ولن تجد لطباع الحمقى تبديلا ؛ فهم لا يميزون بين الاعداء والاولياء ..!!
وقد طلب عبادة بن الصامت من نبطي ( عراقي ) : أن يمسك له دابته ، فرفض ، فضربه عبادة؛ فشجه ؛ فأراد عمر أن يقتص له منه؛ فقال له زيد بن ثابت : أتقيد عبدك من أخيك؟!
فترك عمر القود ، وقضى عليه بالدية ... ؛وضج العراقيون بالشكوى بسبب التمييز العنصري , وتعييرهم بكلمة ( النبطي ) وازدراهم من قبل اجلاف الصحراء واعراب البادية , ولم يقبل الامام علي بهذه المعاملة العنصرية السيئة وهذه القسمة الضيزى ؛ وعمل على رفع الظلم عنهم , بل والافتخار بهم وبأصولهم العراقية وجذورهم الرافدينية العظيمة ؛ اذ قال : (( من كان سائلا عن نسبنا فإننا نبط من كوثى )) وكذلك سار على نهجه ابن عمه ؛ عبد الله بن العباس , فقد قال : ((نحن معاشر قريش حي من النبط من أهل كوثى )) و كوثى - (بالسومرية كودوا، وتسمى حاليا بتل إبراهيم) - او كوثا : هي مدينة سومرية قديمة تقع حاليا في محافظة بابل ؛ فكوثى مكان في سواد العراق و يظن أنها مكان مولد نبي الله إبراهيم ... ؛ ومنذ ذلك الوقت توطدت علاقة العراقيين بالإمام علي ؛ ولا استعبد انخراط بعض العراقيين في قضية اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب ؛ ومن ثم هجم العراقيون على الخليفة عثمان واردوه قتيلا ؛ ونصبوا الامام علي خليفة مكانه ؛ ويعد هذا الحدث الاول من نوعه في التاريخ الاسلامي ؛ اذ انتفضت الجماهير الواعية على الولاة الظالمين من بني امية , وجاء الحاكم برغبة من الجماهير وليس رغما عنهم ؛ اذ لم يأت عن طريق الوصية او التوريث او بقوة السيف ؛ انما جاء بعد ان عرضت الجماهير الثائرة عليه الحكم وبايعته وهي مؤمنة به ؛ وخاضت معه الحروب وبذلت في سبيل حكمه الغالي والنفيس , وقد اخلص له العراقيون الولاء في حياته وبعد وفاته , واتبعوا اولاده ؛ اتباع الفصيل اثر امه ؛ وتوالت ثورات وانتفاضات العراقيين حتى اسقطوا حكم بني امية بمعية بقية المسلمين ؛ اذ رفع بنو العباس شعارات ( الرضا من ال محمد ) ؛ ومنذ ذلك الوقت والى هذا اليوم ؛ والعراق عرين الشيعة , ومركز التشيع , ومقر المعارضة الشيعية الوطنية لكل الحكومات والاحتلالات الاجنبية والغريبة , وقد عرف الحكام هذه المعادلة السياسية فأخذوا الحكم وتركوا المحكوم بحاله يفعل ما يحلو له ؛ فعندما يريد الحاكم ان يتقرب من الشعب العراقي وسكان بلاد الرافدين الاصلاء ؛ يراعي مشاعر واهواء الشيعة ؛ كما فعل الخليفة العباسي المأمون عندما فرب الامام الرضا وشيعته ؛ وبسبب هذا الاجراء , انتصر على اخيه وجنوده ؛ وذلك لان اية جهة سياسية لا تستعين بالشيعة او تعادي الاغلبية العراقية ؛ مصيرها الهلاك طال الزمن ام قصر ؛ وقصة المجرم الطائفي المتوكل العباسي من الشواهد على ذلك ؛ فقد تمادى في معاداة الشيعة ومحاربة التشيع والاستهزاء بشخص الامام علي ؛ مما اثار غضب واستهجان ابنه فضلا عن عامة الناس ؛ فهجم عليه وقتله وصب الرصاص في دبره ؛ في اشارة منهم ؛ لكونه مأبون .
ومن القاب الامام علي انه : كبش العراق ؛ ومن حبه للعراق والعراقيين ؛ انه قام بنقل مقر الخلافة الاسلامية من المدينة الى الكوفة ؛ وسار العباسيون على منواله , وهم بذلك ارجعوا بلاد الرافدين الى سابق عهدها ؛ حيث الامبراطوريات الكبيرة والخيرات الكثيرة ؛ وعاش العراقيون وهم يلهجون بأسم علي وبني هاشم اناء الليل واطراف النهار ؛ حتى اذا اراد صغيرهم ان ينهض او كبيرهم ان يقوم ؛ قال : يا علي ... ؛ فقد هام العراقيون به هياما منقطع النظير ... ؛ مما جعل معاوية يتعجب لشدة تعلقهم به وتمسكهم بنهجه , اذ قال مقولته الشهيرة فيهم : (والله لوفائكم له بعد موته اعجب من حبكم له في حياته) وقال ايضا ( هيهات يا أهل العراق نبهكم علي بن ابي طالب فلن تطاقوا) ... ؛ ورفعوه مكانا عليا ؛ حتى أوصله البعض منهم الى مرتبة الالهة ؛ بينما عده البعض الاخر السر الاكبر و ولي الله الاعظم ... ؛ هذا السرد المختصر وفقا للمشهور من المرويات التاريخية ... ؛ فقد وردت روايات مستفيضة عن طريق السنة والشيعة في شأن يوم الغدير؛ واعتبره الائمة من ال البيت من أعياد المسلمين، وأنه يوم فرح وسرور، بل وأنه عيد الله الأكبر... ومن هذه الروايات على سبيل المثال وليس الحصر ما جاء عن الامام جعفر الصادق : (( عن عبد الله بن الفضل، عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب علما لأمتي، يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتم على أمتي فيه النعمة، ورضي لهم الإسلام دينا . ؛ - (الأمالي للصدوق) - ))
و السردية او القراءة التاريخية الاخرى والتي تبناها البعض من العلمانيين ؛ مفادها كالتالي : الإمام علي أو عليا / إيليا / إياس بن قبيصة (أو من كبيسا) حاكم الحيرة وملكها وقائد جيشها ؛ والذي خاض الحروب ضد عدوه معاوية ... ؛ وحتى هؤلاء الكتاب والباحثين ؛ اشادوا بهذه الشخصية ( علي ) وقالوا : (( ... لكن شتان بين علي و أتباعه الذين نشروا قيم غنوصية معرفية فلسفية نبيلة و حققوا إنتصارات عسكرية مذهلة على فارس و بيزنطة و أسسوا قواعد دين جديد فيه الكثير من الفلسفة الزرادشتية و البوذية (إقرؤا نهج البلاغة المنسوب لعلي بن أبي طالب) كونه كان في العراق و فارس قريبا" من مناهل الفلسفة تلك و بين معاوية بن أبي سفيان و أتباعه الماديين الذين حرفوا و هدموا دين الإسلام و قاموا بتزويره و تحريف القرآن و هدم الكعبة بالمنجنيقات على يد عاملهم على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي و أدخلوا الكثير من التعاليم اليهودية عليه كونهم يهود نصرانيين توحيديين في بلاد الشام كانوا قريبين من اليهود في فلسطين فأنتجوا لنا هذا الدين الفسيفسائي الخليط العجيب ... )) .
وبناء على ما تقدم ؛ و وفقا لكلتا الروايتين او القراءتين التاريخيتين ؛ وبغض النظر عن كل الفرق والطوائف والمذاهب الدينية التي ارتبطت به بشكل مباشر او غير مباشر ؛ يعتبر الامام علي ؛ زعيما روحيا للعراقيين والمسلمين , ورمزا وطنيا تاريخيا , وحاكما اسطوريا , وحكيما عراقيا , وسرا غامضا , وشخصية نادرة ومميزة وفريدة من نوعها , وفارسا مغوارا , وحاميا للعراق والعراقيين ؛ فقد بذل مهجته في سبيل العراق والعراقيين فضلا عن المسلمين والمظلومين والمستضعفين ؛ وطالما تغنى بالعراق ؛ فكان إذا أشرف على الكوفة ينشد قائلا :
يا حبذا مقالنا بالكوفة *** أرض سواء سهلة معروفة
وقال وهو يصف الكوفة , ايضا : ( هذه مدينتنا ومحلنا ومقر شيعتنا) وقال الامام الحسن عندما رحل عن الكوفة بعد معاهدة الصلح : (وما عن قلبي فارقت دار معاشري هم المانعون حوزتي وذماري) وجاء عن الامام جعفر الصادق في مدحه الكوفة : (تربه تحبنا ونحبها) وعنه ايضا انه قال : (اللهم ارمي من رماها وعادي من عاداها) ... ؛ و قال الامام علي مخاطبا اهل العراق : (انتم الانصار على الحق والاخوان في الدين والجنن يوم البأس والباطنة دون الناس بكم اضرب المدبر وارجو طاعة المقبل ) وقال ايضا : (يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم وأعدلهم سنة وأفضلهم سهماً في الإسلام وأجودهم في العرب مركباً ونصاباً أنتم أشد العرب وداً للنبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم...)... , وقال الامام الصادق في مدح اهل العراق : (( واهل كوفة اوتادنا واهل هذا السواد منا ونحن منهم ) وهنالك الكثير من النصوص الدينية والمرويات التاريخية والاحداث والوقائع والسياقات التاريخية التي تؤكد تأييد ال البيت للعراقيين الاصلاء وحبهم لأرض السواد والكوفة ؛ ومما مر عليكم نعرف ان كل الاخبار - او اغلبها - التي تذم اهل الكوفة واهل العراق , والتي ملأت الكتب انما هي اخبار موضوعة ومنسوبة لال البيت زورا وكذبا , من قبل الاعلام الاموي ثم العباسي ؛ لأغراض سياسية ودينية ؛ وكل ما بين ايدنا اليوم من روايات ومقولات واحداث تستهدف النيل من العراق والعراقيين ؛ هو نتاج الخط المنكوس المعادي للشيعة والعراق والعراقيين ؛ وذلك بسبب ا ن اهل الكوفة والعراقيين عموما كانوا من شيعة ومحبي الامام علي ؛ وليسوا من شيعة بني امية او بني العباس ؛ وكان هناك شعارا سائدا , و مثلا يضرب للوفاء وهو : (اوفى من كوفي ) فلا يوجد آنذاك اوفى من اهلها ، فحول اعداء الشيعة والعراقيين بإعلامهم المسموم هذه الخصال الحميدة والمناقب الى اتهامات ومثالب ؛ ونتيجة لهذه السياسة المعادية تأثر الناس بالإعلام المنكوس ضد العراقيين الاصلاء والشيعة ؛ وانتشرت مقولات من قبيل : ( اهل العراق اهل الشقاق والنفاق ) و من المؤسف ان البعض نسبها لآل البيت ؛ علما ان هذه المقولة واشباهها رددها اعداء العراق والامة العراقية , ومنهم : الحاكم اللقيط زياد بن ابيه الاموي , والناصبي الحاقد عبد الله بن الزبير القرشي , والحاكم المجرم الحجاج الثقفي الاموي ؛ ومن لف لفهم من اعداء الشيعة والعراق والعراقيين ... .
وبعد كل هذه الروابط التاريخية والاواصر الثقافية والوشائج الروحية التي تربطنا بالإمام علي وبنيه ؛ والتي لم ينكرها الحكام الغرباء والمحتلون الاجانب والدخلاء ؛ نسمع بين الفينة والاخرى ؛ الاصوات النشاز والتي هي اشبه بنهيق الحمير , ترتفع كلما جاءت مناسبة دينية او غيرها ويتم فيها ذكر الامام علي وبنيه واتباعه ومحبيه ؛ بحجة الطائفية وبذريعة الاخلال بالسلم الاهلي ...!!
واخر الجعجعات الإعلامية والصرخات الطائفية التي يرددها البعض على المنابر التلفزيونية والمنصات والمواقع الالكترونية ؛ قضية عيد الغدير , وما اثير حولها من ملابسات ورؤى وشبهات واشكالات ؛ فقد اقترح السيد مقتدى الصدر جعل عيد الغدير عطلة رسمية في العراق ؛ وقد اعترض الدونية والبعثية والتكفيرية والقومجية والطائفية وغيرهم على هذا الاقتراح ؛ والذي طرحه المجلس الاعلى في احدى الدورات البرلمانية سابقا ؛ كما صرح بذلك حيدر الملا ؛ وادعى البعض ان واقعة الغدير وان ثبتت تاريخيا الا ان دلالاتها لا تشير الى خلافة الامام علي بعد النبي مباشرة ؛ بل هي وصية من النبي بضرورة حب ومودة الامام علي ...!!
وكما ذكرنا انفا ؛ وبغض النظر عن كون واقعة غدير خم ؛ اشارت الى خلافة وامامة الامام علي ام الى مودته وحبه , وبغض النظر عن سند الروايات الدينية والمرويات التاريخية ودلالاتها ومضامينها ؛ فهم العراقيون والمسلمون الشيعة وقتذاك من خطاب النبي و وصيته ؛ انه أوصى بالإمام علي من بعده ؛ ولم يقتنع الشيعة بتأويلات السنة التي تتدعي ان النبي اوقف الاف المسلمين وتحت لهيب الشمس الحارة وبعد رجوعهم من الحج ؛لكي يقول لهم حبوا علي ولا تبغضوه ...!!
واعتقد الشيعة بوصية النبي منذ ذلك الوقت , وعملوا بها , وحفلت كتبهم وحلقات درسهم بموضوع عيد الغدير , اذ توجد الكثير من الأحاديث والنصوص الواردة عن بعض الأئمة مثل الإمام السادس جعفر الصادق (تـ.148هـ)، والإمام الثامن علي الرضا (تـ.203هـ)، حيث تثبت تلك الأحاديث والروايات أهمية عيد الغدير وضرورة الاحتفال به وإظهار الابتهاج والسرور فيه ، ورغم شيوع تلك الروايات في المصادر الشيعية، إلا أن أكثر المؤرخين يتفقون على أن أول من احتفل بعيد الغدير، هم سلاطين بني بويه في منتصف القرن الرابع الهجري ( 352 هجرية ) ؛ ولم يحتفل البويهيون فيه اعتباطا ؛ وانما جاء هذا الاحتفال الديني والتاريخي والثقافي ؛ تلبية لرغبة الجماهير العراقية العلوية , وتماشيا مع عاداتهم وتقاليدهم ؛ فالقرار البويهي بالاحتفال جاء كاشفا عن البيئة العراقية والعقائد الدينية الوطنية ؛ ولم يكن مؤسسا ؛ والدليل على ذلك ان بني بويه ؛ احتفلوا به في العراق , ولم يحتفلوا به في بلادهم بلاد فارس ؛ والى هذه اللحظة يطالب العراقيون بإقراره باعتباره عيدا وطنيا ؛ بينما لا يطالب الايرانيون به في بلادهم وهم تحت ظل حكومة اسلامية ؛ الا ان بعض الآراء تقول بأسبقية الاحتفال بعيد الغدير عن ذلك التوقيت، ذلك أن المسعودي (تـ.346هـ)، قد ذكر في كتابه التنبيه والإشراف، أن الشيعة يُعظمون يوم الغدير، وهو الأمر الذي قد يصب في مصلحة ترجيح الروايات الشيعية التي تعتقد بقدم الاحتفال بذلك العيد... ؛ كما حرص الفاطميون الإسماعيليون على الاحتفال بعيد الغدير والابتهاج بمقدمه، وقد ذكر الكاتب صالح الورداني في كتابه الشيعة في مصر، أن الفاطميين قد اعتادوا في ذكرى يوم الغدير على تزويج اليتامى وتوزيع الكسوة على الفقراء، وتفريق الهبات والأموال، ونحر الماشية وعتق العبيد والإماء... ؛ كما دأبت الدولة الصفوية على الاحتفال في ذكرى يوم الغدير , ومما مر تعلم ان كل طوائف الشيعة كالزيدية والاسماعيلية والامامية احتفلت بعيد الغدير ؛ حتى الدروز والعلويين احتفلوا به ايضا , و استمر العراقيون الاصلاء بالاحتفال بعيد الغدير كابرا عن كابر , وخلفا عن سلف ؛ لذا نشاهد اليوم توافد زوار الشيعة الى مدينة النجف الاشرف وهم يحملون الورود والرايات ويوزعون المشروبات والحلويات , واظهار الفرح والسرور وتبادل التهاني والتبريكات .
ولا اعرف وجها للاعتراض على هذا المقترح ؛ لأنه مقترح عراقي و وطني ولا شأن له بعقائد سنة قارة افريقيا او اسيا , ولا بآراء الوهابية والتكفيرية في السعودية وافغانستان وباكستان ... الخ ؛ فما لنا نحن العراقيون وعقائد الاخرين وآرائهم ؟! , لاسيما وان الامام علي يعتبر رمزا تاريخيا عراقيا شهيرا اذ تضاهي شهرته شهرة سرجون الأكدى وحمورابي ونبوخذ نصر بل ان شهرته لا تقارن بهم ولا بغيرهم من شخصيات العراق ؛ فان قلنا بلاد الرافدين تبادر الى اذهاننا الامام علي وغزواته وحكمه ومواعظه ومواقفه الانسانية واساطيره واسراره ومحبيه واتباعه ومبغضيه واعداءه ؛ فهو المعيار بين الهوية العراقية وغيرها وهو الفيصل الذي من خلاله نميز الاصيل من الدخيل في بلادنا ؛ فضلا عن انه الشخصية الاسلامية المتفق عليها بين كافة الفرق والطوائف الاسلامية بل وغيرها احيانا ؛ فالكل تعشق الامام علي وتحبه وتواليه ؛ وعليه ما الضير ان اجتمع اهل العراق بشيعتهم وسنتهم على يوم الغدير ؛ وان قال السنة ان الغدير يعني مودته ونصرته , وقال الشيعة بل امامته و ولايته ؛ فليكن العنصر المشترك فيما بينهم حب ومودة ونصرة الامام علي وبغض النظر عن كونه الخليفة الاول او الرابع ؛ وليصبح عيدا للوحدة الوطنية والاسلامية , والعجيب ان شوارع العراق ومدنه وقراه مليئة بالأسماء والرموز التاريخية والدينية والسياسية والثقافية الغريبة والاجنبية والتي لا تمت بأية صلة للهوية العراقية والتاريخ الرافديني والثقافة الوطنية ؛ بينما يجن جنون البعض من الدخلاء والغرباء ومن ذوي الاصول الاجنبية والغريبة ؛ عندما يذكر رمز وطني او تمتدح شخصية وطنية ...؟!
وكل الدعوات الطائفية وذات الجذور الاجنبية والغريبة , والتي تطالب بإقرار اعياد وطنية لا تمت للعراقيين القدامى والهوية العراقية الاصيلة بصلة , باءت بالفشل , لان هؤلاء الادعياء ليسوا اكثر تدينا وتسننا من الفقيه القدير والامام الشهير ( ابو حنيفة النبطي العراقي ) الذي عرف بمعاداته للسلطات الاموية والعباسية وموالاته للدعوات العلوية ومناصرته للثورات الشيعية , والفرق بين الاثنين واضح وضوح الشمس , لان ( ابو حنيفة ) واتباعه الاصلاء من ابناء الامة العراقية الاصيلة بينما هؤلاء اغلبهم من جذور اجنبية وغريبة لا علاقة لها بهذه الارض التي عرفت منذ القدم بمعارضتها للحكام والسلطات ؛ وما اتبع وعشق العراقيون ال البيت الا لمعارضتهم للسلطات ؛ والشيء بالشيء يذكر , عندما احيا العراقيون الاصلاء ذكرى عاشوراء في بغداد برعاية الحكام من ال بويه ؛ طالب الاجانب الاتراك والعجم والاعراب ومن لف لفهم من الغرباء القاطنين في بغداد وقتذاك بإحياء ذكرى مقتل عدو العراقيين السفاح مصعب بن الزبير كما يطالب الان بعض الطائفيين باعتبار يوم السقيفة عطلة رسمية ؛ ومضت الايام والسنون ولم يحقق هؤلاء الغرباء والدخلاء والاقلية القليلة مطلبهم الذي لا يمثل الاغلبية الساحقة ؛ و الذي لا يعبر عن هوية العراق والامة العراقية ؛ مما ادى الى فشلهم الذريع وانتشار مراسيم عاشوراء في بلاد الرافدين بل في العالم اجمع والى هذه اللحظة ... ؛ وعليه المطالبة بالاحتفاء بالإمام علي وتخصيص يوم في السنة يرمز له واعتبار ذلك اليوم عيدا وطنيا ؛ لا علاقة له بالأديان والطوائف واجتهادات رجال الدين وخلافاتهم واختلافاتهم وتأويلاتهم ؛ و( الخرط الديني ) والاسهال الفقهي لهؤلاء الادعياء , ولا يعني الخوض في التاريخ الغابر بصورته الرجعية والسلبية والماضوية الغارقة في التحجر , بقدر ما يعني التأكيد على الهوية الوطنية والرمزية العراقية ؛ فلا يمكن ذكر بلاد الرافدين واغفال رموز البلاد كالملك سرجون الاكدي او حمورابي او نبوخذ نصر او النعمان بن المنذر او الامام علي ؛ بل لعل الامام علي اشهرهم واكثرهم تأثيرا في العراق وعلى حياة الامة العراقية ؛ اذ لم يعبد الامام علي من دون الله في اي بلد من البلدان سوى العراق والذي انطلقت منه الدعوة الى باقي الاصقاع فيما بعد , وان دل هذا على شيء فإنما يدل على قوة الروابط والوشائج التي تربط العراقيين بالإمام علي ؛ فالإمام علي وبغض النظر عن القراءات الدينية يعتبر هوية وطنية و رمزية عراقية ؛ وعليه لا يحتاج العراقيون الى بذل الجهد والعناء في ايجاد مناسبة تاريخية , ترتبط بالإمام علي , للاحتفاء بها وجعلها عيدا لهم , فان لم يفلحوا في جعل الغدير عيدا علويا عراقيا , فقد يعتبرون نقل مقر الخلافة من المدينة الى الكوفة او استلام الامام علي للسلطة او الانتصار في معركة الجمل ... الخ ؛ عيدا وطنيا ؛ فالمدار في الاحتفاء هو شخص الامام علي و رمزيته العراقية وليست المرويات الدينية او الوقائع التاريخية فحسب ... ؛ فالاحتفال بالإمام علي لا يعد مناسبة دينية بقدر ما هو ذكرى وطنية عطرة ورمزية عراقية خالدة ... , والاحتفاء به قائم على اسس وطنية تاريخية عريقة , ولا علاقة له بالأسس العقائدية والدينية الخلافية ؛ وان كانت هذه الرؤية الدينية والقراءة المذهبية تمثل الاغلبية الساحقة من ابناء الامة العراقية والتي تمثل ارادة الامة العراقية .
والسبب في عدم اقرار عيد وطني يتعلق بشخصية الامام علي الوطنية ورمزيته العراقية فضلا عن العربية والاسلامية العامة , تشرذم وضعف وهشاشة الجبهة الشيعية , وصراع واختلاف الاحزاب والتيارات السياسية التي تمثل الاغلبية , ناهيك عن معارضة القوى البعثية والقومجية والطائفية والتكفيرية والمرتبطة بالأنظمة الاقليمية والعربية الحاقدة , وقد اقترح المجلس الاعلى في الدورة البرلمانية الثانية , ان يكون يوم الغدير عيدا , الا ان التيار الصدري وقتها عارض المقترح بشدة واعتبره طائفيا ؛ كما صرح بذلك النائب السني حيدر الملا ؛ والذي اشاد بدور التيار الصدري المساند لهم وقتذاك في افشال المقترح ...!!
وفي الايام الماضية طالب التيار الصدري بهذا المقترح , فقد اراد ان يكون يوم الغدير عطلة رسمية , وقام بعض البرلمانيين بتقديم مشروع عيد الغدير ؛ الا انه واجه خلافات شيعية شيعية ؛ فضلا عن المعارضة السنية المعروفة ؛ ففي نظر السنة كل ما يمت للأغلبية العراقية وللشيعة بصلة يعتبر طائفيا ؛ فالبكاء على الحسين , والاحتفاء بالغدير , والتحدث عن عقائد المسلمين الشيعة , وتسليط الاضواء على سيرة ال البيت ورموز المذهب ورجالاته ... الخ ؛ يعد من الطائفية البغيضة ؛ بينما الاشادة بالحاكم الاموي يزيد او السفاح الحجاج او اللقيط زياد بن ابيه من صميم الدين والعقيدة , بل ويعتبر مثالا للوحدة الاسلامية والوطنية ...؟!
ولعل سائل يسأل : لماذا اعترض التيار الصدري على المقترح سابقا , وايده حاليا ؟
لعل التيار الصدري اراد بذلك احراج خصومه الشيعة وكسب ود الاغلبية العراقية ؛ لأنه يعلم علم اليقين ان مشروع القرار لن يمرر , وعندما طرحه اراد تحويل خصومه الشيعة الى شماعة لإلقاء اللوم عليهم , ولإقناع الناس بانهم فعلا (( حكومة بني العباس )) والتيار الصدري رابح في كلا الاحتمالين , لان المقترح اذا تم اقراره في البرلمان , عده التيار الصدري نصرا وطنيا وعقائديا كبيرا , وان فشل في تمريره , لظهر التيار الصدري بمظهر المدافع عن عقائد الشيعة وهوية الاغلبية والامة العراقية , وان خصومه الشيعة بالضد من ذلك , وهو بهذا المقترح قد حصر خصومه الشيعة في زاوية ضيقة , وجعلهم بين خيارين احلاهم مر ... ؛ وان استمرار هذه المناكفات والخصومات الشيعية الشيعية والخلافات السياسية ؛ سيؤدي الى المزيد من تقديم التنازلات للآخرين وتكبد الخسائر والانهيارات وعلى مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية ... الخ .
نعم العراق والعراقيون مروا بظروف عصيبة مع حكم الطغمة البعثية الصدامية المجرمة , واحتاجوا الى الراحة من خلال تشريع الكثير من العطل الرسمية , لاسيما وان الاجواء المناخية اصبحت لا تطاق بسبب الحر الشديد , الا ان البلد الان وبعد مضي اكثر من 20 عام على التغيير , يحتاج الى بذل المزيد من الجهود لإعماره وتطويره , فضلا عن تنمية وتحسين مهارات وقابليات الشباب العراقي , وعليه ارى من الحكمة تقليل العطل الرسمية , مع اعادة النظر في الاعياد الوطنية والاتفاق عليها من جديد , واما بخصوص الاحتفاء بالإمام علي , فاني ارى من الضروري اقرار عيد يرتبط به , من دون عطلة رسمية , فالعيد الوطني اهم من العطلة الرسمية , لان العيد الوطني يتيح للعراقيين الاحرار التحدث عن شخصية الامام علي او تسليط الاضواء على سيرته والاحداث والوقائع التي خاضها واستلهام العبر والدروس التاريخية منها ... ؛ في دوائر ومؤسسات الدولة الحكومية والعامة , لان التعطيل لا يفيد شيء سوى الجلوس في البيت , بينما العيد يعني الاحتفاء داخل دوائر الدولة ولو بتخصيص ساعة واحدة من الدوام الرسمي ؛ وعندها لن يستطيع الطائفيون والعنصريون والغرباء والدخلاء والمنكوسون من الاعتراض على ذلك يحجه الطائفية .