على ضفاف النيل تحت ضوء القمر، هناك فى قاعة زفاف حيث تعج بالضوضاء، أضواء تعلو تارة فتكشف الضحكات على كل الوجوه، وتخفت تارة فتستر الهمسات والنظرات من كل العيون، زجاجات المياه وقطع الحلويات التى تدور بين الناس والأغانى التي تُلعب واحدة تلو الأخرى، فلاش الكاميرات الذي يومض كل دقيقة، والأطفال الذين يلهون بين أرجل الحضور. كعادته يقف وحيداً في تلك اللحظات، يرتدى بذلته السوداء وقميصه الأبيض واضعاً يده فى جيبه واقفاً على حافة العرس، لدقائق ينظر للحدث وكأنه يحلق فوقه لا يشارك فيه، يتخيل دائما كما في أحلامه فتاة أحلامه بين المدعوات، تقع عينه عليها من النظرة الأولى، يهمس فى أذن أحد أصحاب العرس علّه يعرفها، يحصل على أي وسيلة إتصال بأهلها، قصة رتيبة، لعل هذا ما يخطر ببال الشباب والفتيات عندما يتزين لعرس أحدهم، ربما يود هو ذلك أيضاً ولكن ليس بهذه الطريقة الأوتوماتيكية.

فكر فى أن ينهى فقرة تأمل قاع أحزانه هذه قبل أن يضبطه أحداً متلبساً بهذه الحالة، شعر بالملل الرهيب ففكر فى الخروج خارج القاعة قليلاً ليستنشق بعض الهواء النقى ويزيح عن رأسه بعضاً من هذا الضجيج، لكنها لم تتركه يفعل أياً من هذا، فقد ظهرت فعلاً أمامه، كما لو أن ليلة ظلماء تحسب أنها في أواخر الشهر العربى ثم فجأة يظهر القمر فتدرك أنك في ليلة بدر، لكن سحباً سوداء ثقيلة كانت تحجبه فلم تتبين إذا كان غائباً أم فقط غائماً.

رأها تجلس بين الحضور متزينةً بالأصفر الذهبى، توزع البسمات برقة على كل من يسلم عليها، وجهها ليس كما يُعرف من وجوه بنى جنسها الناعم، لا تعرف على وجه الدقة أي شيء يجذبك فيه، كل شئ فيه جميل، عينان لم يرى فى خلق الرحمن مثلهما، لقد رأهما أول وهلة، قبل كل شئ وقبل كل تلك التفاصيل، فقد إستوقفه جمال عينيها الواسعتان برموشهما الطويلة، عينان ذواتا لون لم يره فى ألوان العيون من قبل، أسود يميل إلى البنى وما هما بأسود ولا بنى، ربما هما عسليتان، كانتا تلمعان ببريق تراه بوضوح من بعيد وكأن كُل أضواء الأرض خُلقت فقط لتنعكس عليهما، وجه ملائكى منير كالبدر فى ليلة إكتماله، تعلوه إبتسامة رقيقة تظهر جمال وجنتيها، ظل يسترق النظرات إليها من بين الحضور، لكنه وارى نفسه عنها قليلاً وذهب يلتهى بأى شئ، حتى لا تشعر أنه يغازلها.

تذكر القصة الرتيبة التى فكر فيها أول الليلة، أن يذهب فيميل إلى أحد أصحاب العرس ويسأله عنها، هذا أفضل خيار، أو ربما يترك تلك النظرة تختمر في رأسه ويذهب ليراها مرة أخرى تسحب شئ من رف مقابل للرف الذى يسحب منه فى السوبر ماركت، أو تجلس في المقعد الذى يقع أمامه مع صاحبة لها في قاعة سينما، أو تعبر الشارع أمامه وهو يقود السيارة، تمنى للحظات أن تكون فتاة يعرفها من قبل، بدت له اليوم جميلة أكثر من أي وقت مضى، ترتيب آخر جميل لهذه القصة، أو يمكن أن تكون قصة قصيرة حزينة، تنقطع انقطاعاً لا رجعة فيه بأن تكون متزوجة ومعها طفل يلهو الآن مع هؤلاء الأطفال، أو ربما مخطوبة لشخصٍ ما من بين الحضور.

انفلتت منه ضحكة على الهاجس الأخير، تخفى خوفاً من طيفه أن يتحقق، ظل القلق يصاحبه ولم يتركه إلا بعد أن رأى أحد أقارب صديقه تذهب إليها وتسلم عليها، فسأله عنها بلهفة كلهفة طفل تائه وجد أمه بعد سنين، الذي لم يتوقعه في أي قصة أنها بدأت تتحرك نحوه، لوهلة توهم أنها تبتسم، تبتسم له تحديداً، عيناها تنظر إلى عينه، خطوات بسيطة تفصله عنها، ترى هل تعرفنى، تلهث التساؤلات سريعاً في عقله، قلبه هو الآخر يزداد النبض فيه يحاول أن يجمع بعض العبارات التى يمكن أن يرد بها على تحية صارت على بعد خطوتين منه، أوهام قلبه تزيد تمنى لو أنه مشهد من فيلم رومانسى يقوم المخرج بخفت الأضواء وتشغيل أغنية رومانسية، فجأة نهض من قاع أوهامه بعد أن توقفت عند طاولة قريبة منه لتودع الموجودين فيها حيث إعتزمت على الرحيل، لكنها رمقته بنظرة قبل رحيلها، جعلته يشعر بنصل يوخز فى قلبه يسأله كثيراً على حين غرة، ترى هل هى المنشودة؟