يصعب أن يتكهن المرء بما في صدور الناس. حيث ينتشر في جدالاتنا آلة دفاع فعالة تتمثل في جملة أمر مفادها "لا تعمم"، فيعتقد قائلها أنه قد ألجم محاوره و أسكته. حتى وإن كان يعلم في قرارة نفسه أن محاوره على حق في أغلب ما يقول وهو على باطل في أغلب قوله.

مع ذلك فإنني في هذا المقال سأستخدم أسلوب التعميم كقياس منطقي يحلل ظاهرة عامة لا علم لي بتفاصليلها غير ما أراه من أدلة عامة لم تُختبر بعد، وبدليل خاص يتمثل بي قمت باختباره بنفسي. ما أتحدث عنه هو ظاهرة الحكم على الأمور قبل تجريبها و قبل الخوض فيها. الأخذ بالقشور و الطبقات السطحية للأمور.

حين يُمنع كتاب ما من الأسواق، ينقسم الناس الى ثلاثة أقسام: قسمان ساذجان يتنافس كلاهما في السذاجة والجهل، و قسم غير منحاز حكيم ينتظر أن يختبر الأمر المنهي عنه كي يُحكّم عقله و ينتهي بإنضامه لأحد فريقين مشابهين للفريقين الأولين. غير أن هذان الجديدان نتاج تحكيم عقل و تفعيل بصيرة.

عندما يُمنع كتاب ما من الأسواق فهو يعني كما ينادي دعاة الحرية إستلاب ممارسة حقه في حرية التعبير. و هو يعني أيضا الوصاية الفكرية على عقول الناس. فلا يعود الكُتّاب قادرين على الكلام ولا المتلقين معرفة أبعاد و زوايا جديدة للحياة.

قبل فترة سنوات قليلة مُنعت رواية تدعى (حَوْجَن) من المكتبات في السعودية. حينها لم يكن الكاتب معروفاً ولا روايته -على الأقل بالنسبة لي-، ولكن قرار المنع والجلبة التي صاحبته أشهرت الكاتب وروايته. و أصبح الناس كباراً وصغاراً قراءاً وأشباه قراء يتنافسون في الحصول على الرواية. ففي حين انقسم الناس الى فريقين فريق –بكل تأكيد- قد حشر الدين حشراً كي يُحرِّم الرواية بناءاً على ما سمع عنها من قصص تشير إلى أن أحداث الرواية تدور حول الجن والشياطين، ترى الفريق الآخر ينافس في إقتناء الكتاب لا للقراءة انما للإستعراض بمنتج جديد مُنع من أيدي العامة وأُختص حامله به كزينة تزين يده. حينها قامت الدنيا ولم تقعد، وتنافس الكُتّاب والمفكرين والنُقّاد وأصحاب فضيلة الدين في البت بموضوع الكتاب.

حدثت كل تلك الضجة دون أن يقرأ احدهم محتوى الكتاب. ربما قرأوه فيما بعد، و ربما قرأوا مقدمته ولم يكلموه حينما لم يجدوا ضالتهم فيه. حينها فقط سُمح للكتاب أن يُباع ويُشترى بعد أن اشتهر كاتبه وألف كتاب آخر مكملاً له. كل ذلك حصل قبل ان يُقرأ الكتاب. وأكاد اجزم بأنه لم يُقرأ لأنه لو قُرأ حقاً لما مُنع من الأصل ولم يحصل على كل هذه الجلبة والضجة.

وها نحن الآن نعيش نفس الحكاية مع كتاب جديد هذه المرة عنوانه يخفف على المنتقدين و أصحاب فضيلة الدين عبء قراته، لأن عنوانه يقول "رحلة الى أرض لا يحكمها الله". فقاريء العبارة وسامعها يهلل ويستغفر من هول الجملة التي تكفر قائلها وتجرده من أدبه مع الله -حيث نُعِتُّ بذلك شخصياً- و تأنبه على مجرد تفكيره في قراءة الكتاب.

مجدداً، فإن الكتاب مُنع في المكتبات السعودية. لماذا؟ ببساطة مؤلمة لأن العنوان لا يليق، لا لأنهم قراءوا المحتوى و اختبروا مناسبته من عدمها. لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون!