خلال دراستي في مرحلة الماجستير في أمريكا كنت أقضي معظم أوقات الدراسة في مقهى ستاربكس الواقع في قلب الجامعة و مركز نشاطها المزدحم بالطلاب. و بسبب قضاء وقت طويل في هذا المقهى فقد أصبح جميع من يعمل ويشتري من المكان يعرفني. و لكن هذا ليس مهماً بقدر أهمية ما رأيته لأول مرة، وتعجبت له تعجباً شديداً. ربما كان السبب انعدام مثل هذا المفهوم في العالم العربي، أو على الأقل في وطني الحبيب.
ما لاحظته هو أن الشخص العامل خلف مكينة المحاسبة ويبيع للناس القهوة، ما يلبث أن يتحول الى أمام الماكينة، فيصبح هو المشتري و زميله يبيعه القهوة.
تأملت كثيراً في هذا المنظر. فهذا البائع المتحول إلى مشتري يمتلك في يديه سلطة، وإن لم تكن سلطة عظيمة بمعنى السلطة المتعارف عليها لدينا بمفهومها العربي القومي. فهذا العامل لم يتجرأ أن يُدخل بنفسه أمر الطلب في الماكينة، أو يأخذ شيء مما يباع للزبائن. رغم أن من مميزات العمل في مثل هذا المكان أن من حق العامل أن يأكل ويشرب من المحل مجاناً. بالإضافة الى أحقيته في إعطاء أي زبون يفضله مشروب مجاني.
ومما أدهشني أكثر وأثار الحزن في نفسي هو أن أرى العامل الذي كان منشغل بكثرة طلبات الزبائن في أوقات الذروة يخرج وقت فسحته ويقف في آخر الصف الطويل للزبائن الذي يتجاوز أحيانا باب المقهى ويمتد لخارجه ليكون هو آخر من يقف في الصف بإنتظار أن يشتري كأي زبون آخر.
مثل هذا التصرف يجعلني أتفكر في نفسي حين أعود الى السعودية في أوقات الإجازات، حين أذهب الى أحد المحلات التي تستوجب الوقوف في طابور إنتظار، وأكون على أهبة الإستعداد لأن أهجم على كل من يتجاوزني ويأخذ مكاني في الطابور.
هي معركة نفسية تبدأ بالسخط على المنظر الغير لائق لتجمهر المواطنين يمنة ويسرة حول المحاسب و تنتهي في أغلب الأحيان الى مشاجرة لسانية لفاقدي أبسط خصال الأدب.
و أكثر ما يزعجني في نفسي هو أنني حين أعود لبلاد الكفر والفسق والفجور -كما يسميها من لا يعترف بالوقوف في صف إنتظار- هو أنني حين أصطف لأطلب قهوتي أو أودع مبلغاً من المال في ماكينة الصرافة، أكون على أُهبة الإستعداد لأن أقاتل من سوف يتجاوزني، ثم أُدرك لاحقا أنني محفوظة الحق ووجودي محترم ولن يتجاوزني أحد.