يطعن بعض الكتاب بمشروع احياء الامة العراقية الوطني ؛ بحجة عدم وجود علاقة بين المواطنين الحاليين والسكان الغابرين ؛ والادعاء بان ربط المواطنين الحاليين الذين يسكنون هذه البقعة الجغرافية او تلك ؛ بتاريخ الشعوب والاقوام التي قطنت في تلك البقعة الجغرافية في سالف الازمان ؛ من الشعبوية البعيدة كل البعد عن المناهج العلمية .
الاشكال المزبور فيه شيء من الصحة والصواب ؛ ولكن فيه تفصيل وكلام ايضا ؛ نعم قد لا توجد وشيجة تاريخية او ثقافية او عرقية او دينية ... الخ ؛ تربط المهاجرين الاوربيين بسكان قارة الأمريكيتين من الهنود الحمر ؛ وعليه لا يصح ادعاء المهاجر الالماني او الانكليزي او غيرهما من القاطنين في القارتين حديثا ؛ بأنه يمثل الهوية الوطنية القديمة والتاريخية الثقافية للقارتين او انه ينتمي عرقيا للهنود الحمر ؛ ولو ادعى ذلك لأصبح اضحوكة للآخرين ومادة للتندر والاستهزاء ؛ كما هو حال الكرد الان ؛ الذين يتشبثون بكل من هب ودب , ويجيرون كل نظرية او اكتشاف هنا او هناك لصالحهم ؛ لأثبات هويتهم الحقيقية ؛ فتارة ينسبون انفسهم ( للنياندرتال ) وتارة للسومريين , وثالثة للأكديين , ورابعة للآشوريين , و خامسة للفرس الايرانيين ... الخ ؛ وهكذا هم يخبطون خبط عشواء ؛ كل وقت هم في شأن جديد وادعاء مختلف ... .
ومع ذلك يعمل الان بعض الكتاب والمثقفين في القارتين الأمريكيتين من ذوي الاصول الاوربية والجذور الاجنبية والغريبة كالافارقة والاسيويين ؛ على احياء معالم الثقافات الامريكية القديمة والخاصة بسكان القارتين من الهنود الحمر , والاعتزاز بها والترويج لها في وسائل الاعلام , وانصاف الهنود الحمر والاعتذار لهم ؛ والتكفير عن جرائم البيض المجرمين بحق اسلافهم المواطنين المسالمين ؛ والانصهار جميعا في بوتقة الهوية الوطنية الجديدة ؛ والتي تأخذ شيئا من المهاجرين الجدد , وشيئا من السكان الاصليين ؛ لتنبثق من خلال ذلك هوية وطنية جامعة ومشتركة ؛ وتعبر عن كلا الجماعتين او الفئتين او الشريحتين ؛ مع الاعتراف بان الهنود الحمر هم سكان القارتين القدامى والاصلاء ؛ ومن يدري لعل الامور في قادم الايام ترجع الى عهدها السابق ؛ ويعود حكم القارتين الى الهنود الحمر مرة اخرى .
الا ان الكلام – انف الذكر – لا ينطبق على بلاد الرافدين والعراقيين ؛ فالأقوام والشعوب التي سكنت بلاد الرافدين سابقا وحاليا ؛ تنتمي لأرض العراق بجغرافيتها القديمة والكبيرة ؛ او تنتمي لمنطقة الشرق الاوسط - الهلال الخصيب - نفسها والتي تنبع منها الاقوام والشعوب والجماعات ذات المشتركات الجينية او الثقافية او التاريخية ؛ فلا وجه للمقارنة بتاتا بين الاقوام الاوربية والاجنبية التي هاجرت الى القارتين الأمريكيتين وانعدام الوشائج والروابط بينهم وبين الهنود الحمر ؛ وبين الحالة الرافدينية المميزة ؛ نعم هنالك استثناءات تاريخية حدثت في بلاد الرافدين القديمة الا انها لم تؤثر على الهوية الوطنية والصبغة العراقية القديمة تأثيرا بالغا و واضحا وظاهرا للعيان ومستمرا الى هذه اللحظة .
فالروابط التي جمعت الاقوام الرافدينية القديمة كثيرة جدا ؛ والوشائج الثقافية التي وحدت بين الاقوام والشعوب والجماعات العراقية ؛ اكثر من ان تحصى ؛ وطالما تبادلت تلك الاقوام الادوار الحضارية فيما بينها , وتقاسمت تلك الجماعات والشعوب الارث الرافديني العظيم وحملت مشعل الحضارات الرافدينية الى البشرية جمعاء , وتطورت مسيرتها الحضارية والثقافية والاجتماعية شيء فشيء ؛ حتى اسفرت عن الكتابة المسمارية واللغة السومرية ثم الاكدية ثم الارامية ثم العبرية واليهودية ثم السريانية والمسيحية ثم العربية والاسلام ؛ مع الاخذ بعين الاعتبار تأثير الغزوات والاحتلالات الايرانية واليونانية والرومانية والمغولية والعثمانية وتداعياتها ... الخ .
الا ان الامر الملفت للنظر ؛ ان البوتقة العراقية كالإيرانية تنصهر فيها كل المؤثرات والعوامل والفواعل الاجنبية والغريبة وتذوب فيها ولا يبقى منها الا الشيء النزر ؛ فعلى الرغم من تأثير الثقافات الايرانية والعثمانية في بلاد الرافدين الا انها تنحصر شيئا فشيء وتتقهقر حتى تكاد تختفي من المجتمع العراقي تدريجيا ؛ بسبب هيمنة الثقافة الوطنية وشيوع العادات والتقاليد العراقية الاصيلة والتي تتصارع مع الثقافات الوافدة و التي طالما تخرجها من العراق او تحصرها في زاوية ضيقة بحيث لا يؤمن بها او يطبقها على ارض الواقع سوى الاجانب والدخلاء والغرباء فقط ؛ واحيانا المتأثرين بهم من العراقيين الاصلاء .
نعم لا ضير في اندماج الاقوام والجماعات والعوائل ذات الجذور الاجنبية والاصول الغريبة ؛ في الامة العراقية ؛ ولكن بشرط الايمان بالهوية العراقية التاريخية والاعتراف بحقوق وامتيازات الاغلبية الاصيلة وسائر مكونات الامة الاصيلة ؛ والتي تعكس ثقافة وهوية البلاد ؛ اما اذا اصرت تلك الجماعات والعوائل على فرض ثقافتها الاجنبية على العراقيين الاصلاء قسرا , وتسويقها فيما بعد على انها الثقافة الوطنية والهوية الرافدينية العريقة , ومعاداة الاغلبية ومقاطعة الثقافة والسردية التاريخية الوطنية ؛ فلا خيار امام ساسة الامة العراقية وقتذاك ؛ سوى اسقاط الجنسية العراقية عنهم ؛ وارجاعهم الى اوطانهم الحقيقية واقوامهم الاصلية ؛ مع مراعاة الجوانب الانسانية والقانونية ؛ او صهرهم في مشروع الامة العراقية والهوية الوطنية من خلال تغيير قناعاتهم العنصرية والقومية والدينية والطائفية والسياسية والثقافية ؛ وادخالهم في دورات ثقافية , وفرض القوانين التي تحافظ على الهوية الوطنية عليهم ؛ فليس من المعقول والمنطقي ان تتخلى انكلترة عن التحدث والكتابة باللغة الانكليزية ؛ لأجل عيون مجموعة من الافراد القاطنين في بريطانيا والتحدث ب لغتهم فقط ؛ وبناء على ما تقدم لا يصح تحدث كرد العراق باللغة الكردية فقط ؛ واهمالهم المقصود للغة العراق الرسمية والتي تمثل لغة الاغلبية الساحقة و اللغة التاريخية والهوياتية الوطنية ؛ وان جاز هذا الامر , وتحول الى ظاهرة عامة ؛ عندها سنرى مواطنين يتحدثون بالتركية وغيرها فقط ؛ ولا يعيرون أية أهمية للغة العربية والتي تعتبر اللغة الرسمية والثقافية للبلد ؛ مما قد يهدد كيان الامة العراقية والعراق بالزوال والتشرذم والتقسيم والاضمحلال لصالح الدول ؛ وهذا الامر لا يجوز وفقا لكل الاعراف والرؤى السياسية والدولية ؛ فلو سمحنا للجميع بما فيهم المهاجرين حديثا الى البلاد , وذوي الاصول الاجنبية والغريبة ؛ بالانسلاخ عن العراق جغرافيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا ؛ بحجة الديمقراطية وحرية تقرير المصير ؛ لما بقى بلد في العالم على حاله ؛ و لتحولت القرى الى كيانات سياسية ؛ والمدن الى أقاليم فيدرالية , والمحافظات الى ممالك وجمهوريات ...؟!
وفي ظل سيادة العولمة والتبعية الثقافية ؛ فضلا عن الدعوات الانفصالية والتكفيرية الغريبة عن عادات وتقاليد وثقافات بلاد الرافدين وتطلعات ورؤى وطموحات ابناء الامة والاغلبية العراقية الاصيلة ؛ لابد لنا من العمل الجاد والسعي الدؤوب ؛ لإنجاح مشروع احياء الامة العراقية , لان اهمال هذا الملف الوطني الخطير وفي ظل هذه التحديات الثقافية والهيمنة الاعلامية الخارجية ؛ يؤثر سلبًا على الهوية الذاتية والخصوصية المحلية ويؤدى إلى تغريبها وإضعافها... ؛ وعليه يجب العمل على ترسيخ الهوية الثقافية الوطنية المغيبة , وتقوية دعائمها ؛ بما يعزز من سبل الانتماء الوطني لمواجهة التحديات العالمية , وتدعيم وتأصيل جذور هوية العراقيين الثقافية والوطنية ؛ من خلال ربطهم بالتراث الحضاري والموروث الثقافي والشعبي ... ؛ وهذا لا يعني التقاطع مع منتجات الحضارة الغربية او عدم الاطلاع على الثقافات الدولية والتنصل من الشراكات المجتمعية والثقافية مع الاخرين ؛ بقدر ما يعني الاعتزاز بالهوية الوطنية والثقافة المحلية والتي تميزنا عن الاخرين ؛ مع مراعاة التواصل مع مختلف الشعوب والامم والاستفادة من تجاربها الحضارية والثقافية ؛ لرفد الداخل العراقي بكل ما هو مفيد ونافع وجميل ... الخ .