الحياة رحلة..

تتكئ هذه الاستعارة على مفهوم الترحال لتشرح لك معنًى معقداً بحجم الحياة. 

ولأن الحياة -عزيزي المسافر- رحلة، يقتضي الأمر نقطة تبدأ منها (لن تكون باختيارك غالباً)، ووجهة ستصل إليها ( تتبدل باستمرار)، ووسيلة تنقل تحتاجها (قطار عادة)، وطرق عديدة سيتعين عليك الاختيار منها (لتنجو من الطرق المسدودة)، واتجاهات عليك معرفتها (ستتقدم نحو الأمام وسيتم تحذيرك من العودة للخلف).

قد تكون هذه الاستعارة فقدت شيئاً من بريقها لكن تأثيرها على تجاربنا وطريقة تفكيرنا مازال حاضراً.  يوترنا السكون ونشعر بالحاجة الدائمة إلى الحركة والركض وكأننا في سباق. نتحدث بجدية عن قطارات سريعة لابد من اللحاق بها، ومحطات علينا المرور عليها، وخرائط  يجب أن نتبعها بحذافيرها حتى نصل إلى وجهتناالمنشودة.  

يبدو أن هذا الترحال المستمر أنهكنا حتى قرر أحدهم-مدفوعاً بنيته الطيبة- أن الحل يكمن في اتباع طريق واحد.  فرسم خريطة بمحطات محددة وتوقيت زمني ثابت، وزّع نُسخها على الجميع  ثم أقسم على أن لا يشذ عن الطريق أحد. لم يكتفي بهذا، بل حمّلنا جميعاً مسؤولية هداية كل من تسول له نفسه أن يخالف الجماعة. أصبحت رحلتنا آلية لا متعة حقيقة فيها. ولم يعد مهماً أكنت مرتاحاً بالجلوس في القطار أو أردت قضاء وقتاً أطول في محطة ما، فما أن تنزل بقدميك من القطار وتستنشق هواء جديداً حتى تسمعهم يصرخون: هيا أسرع سيفوتك القطار!  

لن تشعر بمشاكل حقيقية في بداية رحلتك.  ففي عقدك العمري الأول، يقرر لك أبويك أين تعيش ومن تخالط وأين تدرس ولا تجد غضاضة في ذلك. تؤمن بكل يقين الدنيا بصحة ما يقولون ولا ينغص رغد حياتك شيء.

ثم تدخل عقدك الثاني وتبدأ مشاعر غريبة باختراق قلبك المؤمن. تغضب دون أن تعرف كيف تسيطر على هذا الغضب وإلى أين توجهه. تشعر بالخيانة وأنت تكتشف عوالماً أخرى لم يخبرك بها أحد، وتتضايق من كل هذه الفوضى التي تسيطر على العالم. 

تبلغ الثامنة عشر فيتعين عليك اتخاذ قرار يحدد لك سير حياتك كلها. قرر الآن. في اللحظات التي تفصل بين إعلان نجاحك من الثانوية وبدء التسجيل في الجامعات. قرر الآن، وسيحدد هذا القرار ماذا ستدرس لمدة أربع سنوات على الأقل، الوظيفة التي ستفني عمرك وأنت تعمل بها، وأي نوع من الحياة ستعيش. سيزعمون بأنه قرارك وحدك لكن الحقيقة ليست كذلك.  يتدخل أبويك فيما يجب أو لا يجب أن تدرس، تتدخل الجامعات في تقليص فرص القبول لديك، ويتدخل سوق العمل في قفل الباب أمام كل أمل تتشبث به وتتسآل كيف يكون قرارك وقد اشترك معك كل هؤلاء؟ 

تتخرج في الثانية والعشرين لتتفاجأ بأنك لست استثنائياً. وأن هذا العالم لم يكن يعد الأيام والليالي لتتخرج، وستصدمك حقيقة أن لا أحد غيرك يعتقد بقدرتك على تغييره. تحصل على وظيفة بشق الأنفس و تنتظر بقلق وصول الشغف الذي سمعتهم يتحدثون عنه طوال الوقت، ثم تكتشف أنك نسخة مكررة وأن عليك أن تجد لنفسك مكاناً بين كل هذه النسخ.

عزيزي المسافر، وأنت تقترب من ربع قرن قضيتها على هذا الكوكب، تحتاج إلى جلسة خاصة مع نفسك لتتأمل في كل المحطات  التي مر عليها قطار حياتك وتسأل سؤالاً مشروعاً: هل كان مرورك نابعاً من رغبة داخلية لديك أم أن أحدهم تبرع لك بالخريطة؟

أعلم كم هو مريح أن تتخذ مرشداً سياحياً للرحلة  ليعفيك عناء التفكير واتخاذ القرارات. وأعلم أنه من المغري جداً أن  تسير على طريق دون مخاطر حقيقية،  تمر بذات المحطات التي مر عليها ملايين قبلك ويُشعرك تزاحم الأقدام  بالدفء والطمأنينة.

لكن أيعقل حقاً أن يناسب كل هؤلاء الملايين من البشر نموذجاً واحداً؟ ألا يضايقك ارتباط عدد المحطات التي مررت عليها بشعورك بالرضا عن نفسك؟ ماذا لو كانت الراحة التي تحس بها ليست دليلاً على صحة الخريطة؟ ماذا سيحدث لو دعوت الشكوك التي تساور قلبك إلى سهرة طويلة واستمعت لها واحداً تلو الآخر دون أن تكون مضطراً لاتخاذ قرار بشأنها حالاً؟

الحقيقة أنه لا مهرب من هذه الأسئلة ولن يستطيع كل مرشدي العالم مساعدتك وأن تواجه السؤال البغيض كل ليلة: ثم ماذا؟! ولذا" لا يوجد استثمار أفضل من استثمارك في قلبك الذي يصحبك. تلاطفه، ،وتستمع له، وتربيه ويربيك، حتى إذا بلغت أشدك صاحبك، وتبعته بثقة من يتبع نبياً".

أنت القطار أيها المسافر! فاختر سير رحلتك كما تشاء. اهتم بخريطتك ولا تتدخل في خرائط الآخرين دون أن يطلب منك. 

إلى كل البشر الذين يتبرعون بإرشادي دون أن أطلب:  

لماذا يتعين علي أن أمر بكل محطاتكم؟ من أين تأتون بكل هذا اليقين بحجم السعادة التي سأحصل عليها بمروري؟ أو بالندم الذي سيأكلني إن تمردت عن الجماعة؟ ما دمتم قد نجوتم بالمرور بها، ماضركم لو لم أفعل؟ 

لا أحتاج إلى صراخكم بأن قطار العمر يجري وبأن المحطات لن تفتح ذراعيها لي للأبد. أعلم أن لكل خيار مجموعته الخاصة من الأرباح والخسائر وأنا على استعداد تام لتحمل الأمرين مادام خياري أنا ولم يجبرني عليه أحد.

اعفوني من تحليلاتكم فلن يعرفني أحد أكثر من نفسي. لا أوهام لدي، أعلم بأني لن  أكتشف معادلة تغير العالم، ولن أكون أسعد إنسان على ظهر الكوكب. أريد فقط أن أختار طريقي بنفسي دون الحاجة  لتبرير خياراتي أو التأكيد على صحة خياراتكم. فما ترونه طريقاً مسدوداً أراه ممتداً نحو الأفق! وما ترونه وقوفاً أراه رحلة  داخلية لستم مدعوين لها ولا تعنيكم. وما تسمونه تراجعاً للخلف أراه طريقاً يدفعني لرؤية جديدة. استمتعوا بمحطاتكم الرائعة وسأدعو الله أن يرزقكم فيها سعادة لا تنقطع.  

"  منذ أن جاء بشري بفكرة إقحام أصابعه-دون طلب- للتأشير على خريطة الحياة التي يستخدمها بشريّ آخر ليدله على طريق السعادة، والعالم ليس بخير!"