تحدث الكثير عن شخصية الشهيد الصدر , وألفت العديد من المقالات والدراسات والابحاث والكتب حول حركته الدينية وسيرته العلمية والجهادية ؛ اذ تداولوا حياته وخطواته ومؤلفاته وقراراته ؛ دراسة وتمحيصا وتحقيقا ونقدا ؛ بما لا مزيد عليه , نعم قد يترك الاول للآخر شيئا ما , وفي هذه المقالة الموجزة , ستناول مفردة من مفردات حركته الدينية والسياسية ؛ الا وهي : ترميم الهوية الشيعية العراقية وبث الحياة في الجسد العراقي المسجى ؛ بعد ان بلغت الروح التراقي .
تمكن ساسة الفئة الهجينة وبمساعدة قوى الاستعمار والاستكبار والمخابرات الدولية عبر العقود الثمانية العجاف - 1920 / 2003 - التي امضتها جاثمة فوق تطلعات وامال واهداف الامة العراقية ؛ من ترويض نسبة كبيرة من ابناء الامة العراقية وتخليصها من العنفوان التاريخي والكبرياء العراقي المعروف والذي كان يميزها عن الاخرين , والعمل على تحويلها الى قطعان متناحرة وجماعات متفرقة وعشائر متصارعة واعراق متباغضة ؛ لكي تتحول فيما بعد الى أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها فحسب ؛ بل ولا حتى على تحريكه .
وسياسة التهجين التي اعتمدتها حكومات الفئة الهجينة تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العراقي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد والاجرام والارهاب والقمع والكبت ، وتفتت النسيج الاجتماعي ، وظهور النزعات المذهبية والعرقية والمناطقية والحزبية .
جميع العراقيين الاحرار - بما فيهم رجال الدين الوطنيين والحركيين وغيرهما - أدركوا أن الحكومات الطائفية والعنصرية المتعاقبة للفئة الهجينة وخلال العهدين الملكي والجمهوري قد اتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد ، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان -تقريباً- لجميع هذه الحكومات ... ؛ وتحول العراق ولاسيما في عهد السفاح صدام الى سجن كبير مزدحم ومعتقل رهيب مكتظ بالأبرياء والاحرار والشرفاء من العراقيين الاصلاء , يفرّغ من نزلائه بين الحين والاخر , ليحل محلهم اخرون , وهكذا ؛ وذلك من خلال تصعيب ظروفهم وفتح مسارب هروب منه أو حتى ترحيل قسري, الى دول الجوار والعالم , او الى جبال العراق واهواره ... ؛ مما فرض على رجال الدين الوطنيين والحركيين وغيرهما و رموز ورجال الاغلبية والامة العراقية سياسة الامر الواقع ؛ فهم بين خيارين احلاهما مر ؛ اما التزام الصمت والتقية والحذر والسكون وعدم التحرك قيد أنملة ؛ وهذه الحالة شبهه البعض ( بصمت القبور ) او التواصل مع السلطات الحاكمة بالمقدار الذي يحقق شيئا ولو يسيرا من مصالح الاغلبية العراقية المضطهدة والمظلومة , ويرمم كيانها الهرم الذي توالت عليه الضربات والنكبات ؛ مما افقدها الاتزان وعرضها للانهيار والانسلاخ عن هويتها التاريخية والعقائدية .
خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء والتقوقع على الذات والانسحاب من مواقع الحراك السياسي والاجتماعي والديني والاجتماعي والثقافي - لاسيما في الحقبة البعثية الصدامية التكريتية اللعينة - ، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العراقي الاصيل ، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه واصالته ، ولا يشعر بإنسانيته وحريته , ولا يستطيع الافصاح عن ما يريد ، تراه يكن البغض للأنظمة السياسية الحاكمة الهجينة لكنه لا يجرؤ على الكلام والتصريح ، فإن فزعه من العقاب والمطاردة تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله الحقيقية يصل إلى الدرجة القصوى مما يصيره فريسة سهلة للازدواج وانفصام الشخصية وتعدد الوجوه وتقمص الادوار المتناقضة .
لقد وصل إخضاع بعض الحكومات الهجينة للعراقيين مرحلة اعتادت عليها تلك الجماهير ولم تعد ترى فيها شيئاً شاذاً ، بل أن بعض العراقيين يعتبر ذلك أمراً طبيعياً ، بحيث تحولت نسبة كبيرة من الامة العراقية إلى أن تمارس رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت بعض الجماعات العراقية توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني الدخيل والمجرم العميل والهجين الذليل ، وتستعين بمبدأ هدام : أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة مادام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام الحاكم تجاه المعارض الوطني النبيل والحر الشجاع الاصيل ... ؛ لاسيما بعد القمع الوحشي لانتفاضة العراقيين الاصلاء الخالدة , والتطهير العرقي والطائفي عام 1991 , والتزام الصمت من قبل المجتمع الدولي برمته وقتذاك ؛ الذي رأى بأم العين المجازر الصدامية والمقابر الجماعية والتهجيرات والاعتقالات المروعة ولم يحرك ساكنا , مما انعكس سلبا على نفسية العراقيين الاصلاء , وقتل اخر أمل في نفوسهم ... ؛ حتى تجرأ البعض على الائمة من ال البيت في العراق , وقالوا : ( الائمة ما تشور بالتكارتة وعائلة صدام ؛ تأثرا بالمقولة الشهيرة : ((الإمام الي ما يشور, يسموه ابو الخرك ... والإمام الما يشور محد يزوره )) ) الا ان ثقة الناس رجعت بمعتقداتهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم التاريخية ؛ بمجرد ظهور حركة السيد الصدر , ومقتل المجرم حسين كامل ... الخ .
والمفزع أن هذا الوضع السلوكي المشوه لبعض العراقيين ؛ اراد النظام البعثي توريثه للأجيال اللاحقة ، بحيث يتحول الشعب كله الى نسخة واحدة من الأصل ؛ وذلك بسبب استمرارية النهج المنكوس للفئة الهجينة خلال العهدين الملكي والجمهوري ؛ ولاسيما البعثي الصدامي ؛ فقد ارادوا تحويل العراقي الى مواطن هجين مشوه مشلول الارادة ومسلوب العزيمة والحرية و منعدم الوعي ومغيب العقل والهوية ؛ ولا تربطه اية رابطة بأصوله الدينية والعرقية والوطنية الاصيلة , ولا بجذوره التاريخية العريقة ؛ ولولا ظهور حركة الشهيد الصدر وقتذاك ؛ والتي اعادت للأغلبية العراقية شيئا من هويتها المذهبية والتاريخية والوطنية ؛ لكانت النتائج مروعة .
قد يعتقد السياسي الوطني او الفقيه الشيعي ببراءة ذمته بينه وبين الله ؛ عندما يقوم بهذا العمل او ذاك ؛ او عندما يبرم اتفاقا بينه وبين السلطات الحاكمة او القوى الدولية من باب اهون الشرين ؛ او من باب ( مكرها اخاك لا بطل ) ؛ وقد قرأت في احدى المرات فتوى للسيد الخميني تبيح للفقيه الاتفاق مع الحكام الظالمين او القوى الكافرة ؛ ان كان هذا الاتفاق يصب في مصلحة الاسلام ؛ او اذا كان نفعه اكثر من ضرره على ما اذكر ؛ ولا اظن ان الفقيه يعوزه الدليل ان اراد عقد الاتفاقيات مع هذا الظالم او تلك الحكومة ؛ فما ضاق مسلك على فقيه كما يقولون ؛ وهذا جوابا على من اتهم السيد الصدر بالتعاون مع نظام صدام - ان صدق في دعواه - ؛ فضلا عن ان اغلب الفقهاء البارزين ورجال الدين المتصدين للشأن العام ؛ كانت لهم علاقات وتواصل بشكل مباشر او غير مباشر بحكومات زمانهم وساسة عصرهم ؛ ولا اعتقد ان الفقهاء اعظم شأنا من الائمة الذين كانوا يشاركون في بعض الانشطة والفعاليات العامة وفي ظل الحكومات الظالمة , بل كانوا يجالسون الظالمين ويأخذون عطاياهم احيانا ؛ لذا اجمع فقهاء الشيعة قاطبة على جواز اخذ الهدية من الظالم .
واشكل البعض على ان هذا الاتفاق غير المباشر او التنسيق غير المعلن ؛ قد أدى الى نتائج سلبية صبت في صالح النظام البعثي او اسفرت عن نتائج وخيمة فيما بعد , وقد انعكست على الواقع العراقي بعد عام 2003 ؛ والجواب عن هذا الاشكال ان صح : اولا - ان المتعاقدين على أمر ما ؛ عندما ابرما العقد او الاتفاق بينهما ؛ فأنهما ارادا بذلك جر المنفعة لصالح كلا منهما ؛ فكل واحد منهما يعتقد او يظن ان الاتفاق سيصب في صالحه ؛ فالصالح يعتقد بينه وبين الله ان الاتفاق سيصب في صالح الاغلبية العراقية او الشيعة ؛ بينما يظن الظالم انه سيحقق بعض الغايات المشبوهة من خلال هذا الاتفاق او التنسيق ؛ حتى النبي محمد عندما ابرم صلح الحديبية مع المنكرين لنبوته ؛ اراد من خلال هذا الصلح والاتفاق ان يحقق النفع للإسلام والمسلمين ؛ وكذلك كفار قريش ومشركو العرب ؛ ارادوا تحقيق المصالح الانية وقتذاك والتي تصب في مصلحتهم ؛ وعندما دارت الايام انتصر النبي محمد ولم يحقق المشركون اهدافهم وفشلت كل مخططاتهم ؛ وعليه من الممكن ان يفشل الظالم في انجاز مخططاته او يحقق جزءا يسيرا من اهدافه المشبوهة ؛ بينما يحقق الفقيه الحركي والسياسي الوطني اهدافه الخيرة او بعضا منها ... ؛ وثانيا : اما بخصوص السلبيات التي اسفرت عن حركة الشهيد الصدر ؛ فهذا الامر يكاد يكون عاما ويشمل الكل وبلا استثناء ؛ حتى الانبياء انحرف بعض اتباعهم ومارسوا الموبقات والجرائم ؛ فالصالح لا يتحمل جرائر الطالح الذي جاء بعده ... .
ونبز البعض بالسيد الصدر ؛ بسبب ذهابه مع الوفد العراقي الديني الى ايران في عقد التسعينات من القرن المنصرم ؛ او مراجعته لبعض الدوائر الحكومية ؛ كأي مواطن عراقي اخر ؛ محكوم من قبل سلطة غاشمة ؛ لا وجه له , بل لعله ينسجم مع المرويات الدينية والتاريخية والسيرة العقلانية ؛ فطبيعة النفس البشرية ما إن تواجه ضغطا سياسيا , او دفعا سلطويا , او تهديدا أو تحديا ما ؛ حتى تعتبره مبررا يبيح لها ما لا يباح في الظروف الطبيعية ؛ لذا قيل : الضرورات تبيح المحظورات ... ؛ بل لعل البعض يعتبر نزول الشيعة الى الشارع وممارسة شعيرة صلاة الجمعة في عهد السفاح الطائفي صدام من أهم الواجبات .
نعم قد أسس الشهيد الصدر لحالة جديدة لم يألفها المجتمع العراقي في ظل الحكومات الهجينة والطائفية والعنصرية والبعثية العميلة الحاقدة ؛ اذ مارست الاغلبية العراقية الاصيلة طقوسها وعباداتها ؛ امام الملأ , وحرك الشيعة المياه الراكدة وغيروا الاسنة منها ؛ بماء الفراتين العذب الزلال , وعادت المياه الى مجاريها الطبيعية , وعاش العراقيون بهويتهم الحقيقية , وتنفسوا الصعداء رغم البؤس والشقاء , وتحدوا النظام وجبروته , واعلنوا ولائهم الدائم والابدي لآل البيت وصهر الرسول وزوج الزهراء البتول , وسفهوا الدعوات التكفيرية الغريبة والرؤى البعثية الهجينة والافكار السوداوية الطائفية التي لا تمت للعراق والعراقيين الاصلاء بأية صلة ؛ وعقدوا الاجتماعات السياسية والحلقات الدينية فيما بينهم , والتي اسفرت فيما بعد عن انتفاضة بعض المدن العراقية واغتيال الشخصيات البعثية والصدامية بعد حادثة استشهاد السيد الصدر عام 1999 .
وأصبح الشهيد الصدر زعيما دينيا ورمزا وطنيا ؛ فلأول مرة يشاهد العراقيون فقيها ينزل الى مستواهم ويتواصل معهم اناء الليل واطراف النهار , ويشعر بمعاناتهم و آلامهم , ويطالب الحكومة الغاشمة بإخراج السجناء والمعتقلين العراقيين وافساح المجال امام الحريات الدينية , ويحرم رمي النقود في الاضرحة والمراقد الدينية ؛ لأنه يعلم علم اليقين انها سوف تذهب الى جيوب المجرمين البعثيين والجلادين الصداميين ؛ ليتم انفاقها فيما بعد على المعتقلات و ادوات التعذيب واماكن الدعارة والانحطاط .
وركز على مناهضة الظلم الاجتماعي من جهة، ومن ناحية ثانية مقاومة الاستعمار...؛ فضلا عن التلميح ولأكثر من مرة بمساوئ النظام البعثي ؛ و اهتم بدرجة كبيرة بمشاكل الشرائح الاجتماعية المختلفة بما فيهم فئة المنبوذين كالغجر ، وبذل قصارى جهده لإصلاح الاوضاع في الحوزة العلمية والمؤسسة الدينية ؛ من خلال التصدي لبعض الحالات المنحرفة والوقوف بوجه بعض رجال الدين العنصريين الذين يسعون لاحتكار القرار الديني والسيطرة على مقاليد الامور في الحوزة وحرمان الشيعة العرب والعراقيين وغيرهم من كل مقدرات وامكانيات الحوزة العلمية في النجف الاشرف وباقي المدن المقدسة وحصرها بهم فقط ؛ بشتى الاعذار والذرائع التي ضاق العراقيون الاصلاء بها ذرعا ؛ وفتح ابواب الحوزة العلمية امام ابناء الاغلبية العراقية الاصيلة وشجعهم على الالتحاق بالدراسات الدينية , بعد ان كانت حكرا على البعض ؛ واصبحوا اساتذة يشار اليهم بالبنان ؛ والى هذه اللحظة يطعن بعض المنكوسين بالسيد الصدر بسبب هذا الاجراء ؛ كما طعن ابناء الفئة الهجينة من بقايا العثمنة ورعايا الانكليز الدخلاء من قبل بالزعيم عبد الكريم قاسم ؛ لأنه انصف ابناء الاغلبية العراقية الاصيلة ؛ وحجتهم في ذلك انحراف بعض رجال الدين ؛ علما ان الحوزات والمراكز والمؤسسات الدينية وفي كل انحاء العالم وعبر تاريخها الطويل ؛ لم تخلو من رجال الدين المنحرفين ؛ فلماذا يغض الطرف عن تلك وتسلط الاضواء على هذه ...؟!