بدأ قرص الشمس يميل لمعانقة الأرض ليبدأ معه الظلام بفرض سيطرته على السماء، لكن ضوء خافت كان يخرج من غرفة أم مريضة بأحد المستشفيات، ما هى إلا لحظات حتى إنطفأ هذا الضوء معلناً وفاتها.
فى الخارج كنت أقف مع صديقى الذى ما إن سمع خبر وفاة أمه حتى تغير لون وجهه ليصبح مصفراً شاحباً، كأن الدماء ركدت فى عروقه لا تتحرك، تاهت الكلمات منه فلم يستطع أن يكون جملة يتفوه بها لسانه، ففرض الألم حضوره وساد الصمت الموقف، لقد فقد الرجل أمه وأغلق اليوم فى وجهه باب من أبواب الجنة.
كان يقف فى العزاء شارداً مكسوراً كمن لا سند له فى هذه الدنيا، تحجرت الدموع فى عينيه، لكن قلبه لم يستطع أن يتماسك فأخذ ركناً فى صدره يبكى فيه بحرقة، يمر الجميع لتعزيته ومواساته، يخبرونه أنها كانت إمرأةً مسنة والمرض نال منها وأن الموت راحةً لها، لكنه كان صامتاً لم يعد يقوى على الكلام، يمد يده بالسلام ويومأ فقط برأسه، يتألم فى صمت عميق لكن الألم كان يُسمع صداه يهز ضلوع صدره، الجميع لا يشعر أنه لم يفقد اليوم إمرأة مسنة مريضة، بل فقد الملجأ الذي كان يفر إليه كلما ضاقت به الدنيا، فقد من جعلها الله سبباً في وجوده على هذه الحياة، فقد من كان يضع رأسه على كتفها ويشكو لها همومه ومتاعبه فتمرر راحتيها على وجنتيه وتشدد من أزره لتخبره ألا يقلق ويحزن فهى بجانبه، لم يتبقى له شئ يبعث الطمأنينة فى حياته بعدها، الحياة ستتحول إلى جحيم بدونها، الشمس لن تشرق فى الصباح كما تشرق كل يوم، الدعوة الصادقة الطيبة لن تصعد إلى السماء بعد الأن، لقد رحلت وتركته كشمعة مضيئة فى ليلة مظلمة قاحلة تخشى ريح تهب فتطفأها.
أنهى العزاء وعاد إلى بيته، دخل غرفتها الخالية، كل شئ كان لا يزال على حاله كما تركته، المصحف الذى كانت يداها لا تفارقه، كأس الماء الذى لم تكمل إرتشافه، نظارتها التى كانت ترى بها بعد أن سرق العمر بريق عيناها، وألبوم صور كانت تقلب فيه كلما حملها الحنين لذكريات الماضى الجميل، كل شئ فى الغرفة كان حزيناً، يكاد ينطق من حزنه فيسأله هل سقوطها على الأرض بيننا هذا الصباح فاقدةً للوعى أخر عهدنا بها. لم يستطع أن يتماسك أكثر من ذلك، فانهمرت الدموع على خديه كسحابة مثقلة بمطر أتعبها حمله فسقطت حتى بللت لحيته التى كان يداعب خديها بها كل صباح، فتبتسم وتطبطب على رأسه وتقول "لقد كبرت يا ولدى".
لقد شهدت الكثير من أشكال الفراق ولم يكسر جدار فؤادى ألم فراق أكثر من هذا، فمنذ أن دب الله تعالى فى قلوبنا الحياة، وهى تحمل فى جيناتها حب الأم تماماً كالإيمان بوجوده تعالى، نقاوم الرغبة فى فراقها، نلهث منه هرباً خوفاً من أن يصيبنا بجروح لا طاقة لنا على إلتئامها، لكنك لا تكون إنساناً إن لم تنفذ فيك سنن الله، وسنة الله فى الحياة أنها فانية لا خلود فيها، نجبر فيها على الفراق، فنضيق ونحزن ونبكي ثم تداوينا الأيام، لكن فراق الأم لا تداويه أعوام، يترك لنا وجعاً لا يسع الدنيا وما عليها، وجعٌ كإعصار يبتلع فى طريقه كل حلم جميل.