المعاني الحقيقية للعيد تكمن في الفرح والسرور ؛ فكأنه مكافأة للإنسان على أمر ما , لذا نرى المسلمين بعد اداء شهر رمضان يفرحون بعيد الفطر , وكذلك المؤمنين المسيح نراهم يحتفلون برأس السنة وهي عيد ميلاد المسيح ؛ او تعبيرا عن بداية عام وانتهاء اخر مليء بالإنجازات والعمل ... الخ ، اي أن يفرح الإنسان ويأمل بتغيير الحال نحو الافضل , فالعيد جاء ليحيي في الإنسان رغبة الحياة وتجديدها والاستمرار فيها ؛ وايضا ليشير الى قيمة ما في حياة بني البشر ؛ وعليه صار للام عيدا , وللعمال عيدا وللطفولة عيدا ... الخ ؛ اما اذا كانت ظروف الحياة قاسية وصعبة ومظلمة ، ومجتمعنا يعيش في بحر متلاطم من الازمات والنكبات وخيبات الامل ؛ واما اذا كان المرء يعيش اسوء حالات الاحباط والفشل ويعاني من البطالة والعوز المقترنة بمشاعر الاكتئاب والاسى والقلق والاضطراب ... الخ ؛ فأن لسان حاله سيكون كما قال شاعرنا الكبير المتنبي :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ... بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ .
ولو كان المتنبي حاضراً بيننا الان ؛ فأنا على تمام الثقة من أنه سيهدي بيت الشعر هذا إلى العمال العراقيين البائسين ؛ فهذا البيت الشعري ينطبق تمام الانطباق على وضع العامل العراقي المأساوي ؛ فقد عاش العامل العراقي ومنذ انبثاق الدولة العراقية الحديثة , ظروفا قاهرة , فالحكومات الهجينة والطائفية وحاشيتها الغريبة والعنصرية كانت تنظر نظرة سلبية للعمال العراقيين , ولم تعمل على تحسين واقع العمالة الوطنية في العراق ؛ فطالما كان يعير العامل العراقي بكونه ( فكر اي فقير) ولعل تعبير ( خطيه) يقترن في بعض الاحيان بظروف العامل وعمله في العراق ( خطيه هذا يشتغل بالحر عمالة , خطيه هذا مدهن ونايم جوه السيارات على التبليط ... الخ ) حتى ان اهازيج الاطفال كانت في ايام الاعياد في العراق تعكس ظروف العامل العراقي البائسة ؛ وتنقل واقع احوال عمله بتندر ومنها : (( ... حنش بويه حنش... يشتغل بالطين حنش.. يوميته عشرين حنش... ))
او تلك المرثية التي قيلت بحق احد العمال والكسبة الكادحين من اهل العمارة : ((شلون تموت وأنت من أهل العمارة ـــ شلون تموت ويوميتك ثلثمية ــ التمن مستوي والبانية نية ـــ والحامض حلو رد بصوانيه... )) فقد كان الراتب 300 درهم في اليوم يعد ثروة - بحدود ال الربع دينار- والطعام تمن رز وباميا - وكان طعاما للأغنياء وميسوري الحال - على الرغم انه كان يخلو من الفواكه وغيرها من الاغذية ؛ ومن الواضح انه بائع جوال يبيع الحلوى للأطفال ، و قد خر صريعا لأي سبب ، وفجأة كما توضح الهوسة الشعبية ؛ الا ابناء مملكة ميسان العربية والجنوب الابي واحفاد سرجون الأكدى ؛ يرفضون الموت فجأة ؛ جملة وتفصيلا ؛ لانهم شربوا من ماء الحياة , وسرت في شرايينهم دماء الخلود والعظمة الرافدينية ؛ فهذه الاهزوجة تعد الصرخة التي يطلقها أبناء العمارة , والرافضة لكل انواع الموت ؛ ولاسيما الموت الابيض والذي يعني الجوع والعوز وفقا لبعض القراءات التاريخية ؛ فالجنوبي والعمارتلي مخلوق اختارته السماء ليكون عنوانا للشموخ والاباء والكبرياء ؛ فعلى الرغم من عقود التجهيل والتهميش التي مارستها الفئة الهجينة وطغمة الدخلاء والغرباء والاجانب بحق ابناء الجنوب الاصلاء وما تعرضوا له ؛ من اجحاف وظلم وافقار ؛ الا ان لسان حالهم وحال عمالهم وفلاحيهم وكادحيهم كما قال الشاعر الشعبي :
صدك ما عدنه احنه ونشتغل عمال
بس يم الكرامة توكف انته جلال
ولد الشيوخ احن ما تغثنه رجال
مو مثلك يا لمالك هيبة
وقد عملت حكومات العهد الجمهوري الدموي باستثناء – حكومة عبد الكريم - كسابقاتها من حكومات العهد الملكي الاغبر ؛ على اذلال العمال العراقيين , وتقديم العمال الاجانب والغرباء عليهم , حتى جاء عهد البعث السافل ؛ والذي اصبح فيه العمال الاجانب والغرباء هم اسياد البلد , بينما عانى العامل العراقي من شتى صنوف الاهمال والتهميش ... ؛ وليت الامر وقف عند هذا الحد , فقد واصلت جيوش العمالة الاجنبية والغريبة غزو العراق والى هذه اللحظة ؛ مما تسبب بالحاق افدح الاضرار بالعمال العراقيين ؛ ففي الوقت الذي يأكل فيه العامل الاجنبي ألذ واشهى الاطعمة والاغذية الصحية , ويسكن في ارقى المساكن , ويأخذ اعلى الرواتب , ويحصل على افضل الامتيازات ؛ يفترش العامل العراقي الارض ليأكل فتات الموائد , ويعيش بلا سكن ولا تأمين صحي ولا ضمان ؛ فالكثير من العمال العراقيين سقطوا صرعى في اماكن عملهم , والكثير منهم تعرض للإصابات القوية والاعاقات بسبب ظروف العمل الصعبة والتي تنعدم فيها شروط السلامة , حتى هام العمال العراقيون ايام الحصار على وجوههم داخل العراق وخارجه ؛ طلبا للقوت ولقمة العيش فقط لا غير , واستمر الوضع الى هذه اللحظة , وقد نقل لي عمال محافظة ميسان ؛ انهم تعرضوا لموجات العمالة الايرانية الرخيصة والتي غزت ميسان ؛ بحيث ان العامل العراقي الذي كان يأخذ متر ( تطبيق السيراميك مثلا ) بسعر 14 الف دينار ؛ جلس في داره , بلا عمل بسبب ان العمل الذي يؤديه العامل الايراني اقل سعرا منه ؛ اذ يصل سعر المتر الى 4 الاف دينار احيانا , مما سبب عزوف الناس عن التعاقد مع العمال العراقيين وتفضيل الايرانيين عليهم , مما ادى الى ازدياد اعداد العطلين عن العمل ؛ الا ان عمال ميسان انتفضوا ضد هذه الظروف التي تستهدف العامل العراقي , وقاموا بطرد العمال الغرباء من المحافظة والحد من نفوذهم المتزايد , واستقر سعر المتر الان عند سعر 8 او 7 الاف دينار فقط ؛ علما ان ظروف المعيشة وفرق العملة بين البلدين مختلف جدا , وكذلك باقي العمالة الاجنبية والغريبة كالهنود والبنغلاديش والباكستانيين والمصريين والسوريين والافارقة الذي نافسوا العمال العراقيين منافسة غير عادلة ولا متكافئة , مما ادى الى الحاق افدح الاضرار المادية والمعنوية بالعمال العراقيين وعوائلهم ... الخ .
فكيف يشعر العامل العراقي بعيده ؛ وهو لا يستطيع شراء افضل الثياب لأبنائه ولا يقوى على تلبية احتياجات العائلة , ولا يتمكن من دفع اجور العلاج والكهرباء والماء والهاتف والأنترنت وباقي الضرائب والرسوم التي لا عد لها ولا حصر ...؟!
كيف يشعر العامل العراقي بالعيد ؛ وجيوش العمالة الاجنبية وقوافل العمال الغرباء تحاصره من كل حدب وصوب ... ؛ كيف يشعر بالعيد وهو يحصل على أدنى الاجور ويعمل في أسوء الظروف ويتعرض للابتزاز والاستغلال من قبل اصحاب العمل والثروة , كيف يشعر بالعيد وهو يزداد فقرا بمرور الايام ؛ وتتفاقم مشاكله يوما بعد يوم ...؟!
كيف يفرح العامل العراقي بالعيد ؛ وهو بعيد كل البعد عن الرعاية الحكومية , اذ لا يحظى بالتأمين الصحي ولا التقاعد ؛ ويفتقر للدورات المهنية والتنموية التي ترعاها الحكومة او منظمات المجتمع المدني والتي ترفع من مستواه المهني وتحسن من كفاءته واداءه , وتجعله يواكب التطورات المهنية والتقنية والاقتصادية العالمية ...؟!