كانت هناك سمكتان تسبحان، وصادف أن قابلتا سمكة أكبر سناً تسبح في اتجاه معاكس، تحييهم “صباح الخير، كيف حال الماء؟” بينما تستمر السمكتان الشابتان في السباحة قليلاً، نظرت إحداهن إلى الأخرى وقالت: “ما هو الماء؟”.

يعد مطلبا تقليديا في خطابات التخرج الأمريكية أن أقدم قصة تربوية ذات مغزى أخلاقي، والقصة هذه يظهر أنها أفضل وأقل هراء من مثيلاتها.

إن كنتم في هذه اللحظة تخشون أن أقدم نفسي بمثابة السمكة العجوز الحكيمة لأشرح ما هو الماء بالنسبة للسمكتين الشابتين، أرجوكم لا تفعلوا، لست السمكة العجوز.

المعنى المباشر والصريح في قصة السمكة هذه;  أن الواقع الأكثر وضوحاً وشيوعاً وأهميةً تصعب ملاحظته والحديث عنه، بالطبع هذه عبارة مبتذلة، لكن الحقيقة هي; أن الأنفاق اليومية في وجود الإنسان البالغ، يمكن أن تشكل العبارات المبتذلة فيه أهميةَ حياة أو موت.  أو كما أرجو أن أقترح عليكم في هذا الصباح الجميل.

بالتأكيد، الغرض الرئيسي من خطابات كهذه أن أتحدث عن جدوى دراستكم الآداب والعلوم الإنسانية، أحاول فيها أن أشرح ماذا تحمل هذه الشهادة من قيمة إنسانية بغض النظر عن العائد المادي.  لنتحدث عن أكثر الكليشيهات متعارف عليها في خطابات حفل التخرج; وهو أن دراسة العلوم الإنسانية لا تعني كثيراً بحشوكم بالمعرفة بقدر ما “تعلمكم كيف تفكرون” وإن كنتم مثلي وأنا طالب، لن يعجبكم سماع ذلك، وربما تشعرون قليلا بالإهانة من زعم أنكم بحاجة لأحد يعلمكم كيف تفكرون، ولكني أفترض ان هذا الكليشيه ليس مهينا أبداُ، لأن الأمر المهم في تعليم التفكير أن وجودنا في مكان كهذا[1] لا يختص بزيادة مساحة التفكير وإنما باختيار ماذا نفكر، وإذا كانت مسألة حرية اختيار بم تفكرون  واضحة ولا تحتاج إلى نقاش، سأطلب منكم أن تفكروا بالسمكة والماء، وأن تبنوا بعض الشك لدقائق قليلة حول معنى ما هو واضح.

وهذه قصة تربوية قصيرة أخرى; في صحراء ألاسكا، ثمة رجلان يجلسان في حانة، أحد هذين الرجلين متدين والآخر ملحد، يتجادلان حول وجود الله، حوار جاد جاء بعد البيرة الرابعة.

قال الملحد: “اسمع، لا يعني هذا أني لا أملك أسبابا منطقية لعدم إيماني بالله، ولا يعني أني لم أخض تجربة الصلاة والدعاء. فقبل شهر، ضللت الطريق عن المخيم أثناء هبوب عاصفة ثلجية هائلة، وكنت ضائعا فيها ولم أر شيئا، وبلغت درجة الحرارة وقتها تحت الصفر، لذا جربت أن أركع واضعا ركبتي على الثلج، وأبكي “يا إلهي، إن كان هناك إله، أنا ضائع في العاصفة الثلجية، وسأموت إن لم تساعدني” “

نظر الرجل المتدين إلى الملحد باستغراب وقال: “عليك الآن أن تؤمن، فبعد كل ما حدث ها أنت، حي”

قلّب الملحد عينيه ورد: “لا يا رجل، كل ما حدث أنه مر رجلان من الإسكيمو كانا يتجولان، واقتادوني إلى المخيم”

من السهل تحليل القصة من وجهة نظر دارسي الآداب على الوجه الآتي; أن التجربة الواحدة يمكن أن يختلف معناها من شخص لآخر، من خلال إعطاء هذين الشخصين أطر وطرق مختلفة لبناء معنى للتجربة. ولأننا نقدّر التقبل وتعدد الآراء، لا يمكن لتحليلنا في التعليم الأدبي الافتراض أن تأويل هذا صحيح والآخر خطأ وسيء، وهذا لا بأس به سوى أننا لا نجد أنفسنا نتحدث عن من أين جاءت أطر التفكير الشخصية هذه، أي .. أين مصدرها داخل رأس هذين الرجلين؟ على اعتبار أن استيعاب المرء الأولي للعالم والمعنى المستقى منه، متصلٌ به ، كالطول أو مقاس الحذاء، أو يتشربه تلقائيا من الثقافة المحيطة كاللغة، وأن ما يتعلق بكيفية بناء المعنى ليست مسألة شخصية أو قصدية.

 إضافة إلى نقطة غرور الرجل الملحد، فقد كان موقنا تماما ألا احتمال في كون مرور رجلي الإسكيمو له شأن بدعائه. صحيح، أن هناك الكثير من المتدنيين يبدون أكثر غطرسة ويقينا في معتقداتهم، وقد يكونون منفرين أكثر من الملحدين. ولكن تعصب المتدنيين تماما كقصة الملحد: يقين أعمى، انغلاق فكري، يؤدي إلى سجن لا يعرف السجين فيه أنه مسجون. أظن أن هذا جزء واحد مما ينبغي أن يعنيه تعلم كيفية التفكير: أن أكون أقل غطرسة، وأملك وعيا ناقداً عن نفسي ومعتقداتي. لأن نسبة كبيرة من الأشياء التي أظن لاشعورياً أني موقن بها، تظهر لي خاطئة ومضللة. تعلمت هذا بالطريقة الصعبة، وكما أتوقع أنكم ستمرون بذلك أيضاً.

 خذ مثالا على الخطأ الجسيم الذي أرتكبه على شيء أعتقد به لاشعوريا  ;كل شيء في تجربتي الآنية يدعم معتقدي العميق أنني أنا الوحيد مركز الكون، أنا الواقعي والأكثر صدقاً وأهميةً في الوجود.

من النادر أن نتحدث عن هذا النوع من الشعور الطبيعي بمركزية الذات، لأنه أمر منفر اجتماعياً ولكننا نتشاركه سوياً في أعماقنا، إنه وضعنا التلقائي[2]، متصلٌ فينا منذ الولادة. فكر فيها بالطريقة التالية: ليس هناك سلوك تقوم به لا تكون أنت محوره، العالم كما تدركه أمامك أو خلفك، على يسارك أو يمينك، على تلفازك أو شاشتك ..أياً كان، على أفكار الآخرين ومشاعرهم أن تكون متعلقة بك بشكل ما، ولا توجد إلا أفكارك ومشاعرك، هي الصريحة والملحة والحقيقية.

أرجوكم ألا تخافوا أن أبدأ بالوعظ عن التعاطف مع الآخرين، وإلزامكم طريق الصواب أو الفضيلة، ليست القضية هنا الحديث عن الفضيلة وإنما عن اختيار العمل الذي يؤدي -بطريقة ما- للتغيير، أو التحرر من طبع الوضع التلقائي، الذي يحمل في جوفه مركزية الذات، ورؤية كل شيء والتفاعل معه من خلال منظار الأنا. والناس القادرون على ضبط  طبعهم والتحكم بوضعهم التلقائي، عادة ما يُدعوْن “منضبطون” وما أقترحه هنا ليس مصطلحا طارئاً.

تثير وجهة النظر الأكاديمية هنا سؤالا واضحا; إلى أي مدى يشتمل ضبط الوضع التلقائي على معرفة حقيقية أو إدراك. هذا السؤال يبدو مخادعاً، فمن المحتمل أن أشد الأشياء خطورة في التعليم الجامعي -على الأقل في حالتي- هي إتاحتها المجال نحو فلسفة زائدة في تحليل الأمور، والضياع في مسائل مجردة داخل رأسي عوضاً عن الانتباه ببساطة لما يحدث أمامي وما يحدث داخلي، أعرف أنه صعب للغاية أن تبقى يقظاً ومنتبهاً بدلا من النوم مغناطسياً في حوار داخلي مستمر مع نفسك. فبعد عشرين سنة من تخرجي، أصبحت أفهم شيئاً فشيئاً أن كليشيهات مؤسسات التعليم الأدبية كـ “تعلمك كيف تفكر” تختزل أفكاراً أعمق وأكثر جدية مما تبدو عليه. “تعلمك كيف تفكر” تعني في الحقيقة التدريب على أن تتحكم في كيف وفيم تفكر، أي أن تكون واعياً ومدركاً بما يكفي لتختار ما تنتبه إليه وتختار كيف تبني معنى ما من التجربة، لأنك إن لم تستطع التدريب على هذا النوع من الاختيار وأنت بالغ، ستفشل حتماً.

تمعن في العبارة القديمة “العقل إما خادم مطيع أو سيد سيء.” هذه كالكثير من الكليشيهات ردئية جدا وجافة في ظاهرها، ولكنها تعكس حقيقة عظيمة ومفزعة. ليست مصادفة أن البالغين الذين ينتحرون بطلقات نارية دائما ما يطلقونها على رؤوسهم (على سيدهم السيء) والحقيقة أن أغلب هؤلاء المنتحرين يموتون قبل الضغط على الزناد بفترة طويلة.

 وأقول هنا أن التعليم الحقيقي  -ولا أقصد فيها هراء القيم الذي يقدمه التعليم الأدبي-  هو كيفية تجنب حياة البالغين المريحة، الزاهية، الموقّرة، الميتة، غير الواعية، المستعبدة من قبل رأسك وطبعك في الوضع التلقائي، كونها فريدة ومستعمرة بالوحدة، في كل يوم يبدأ وكل يوم ينتهي.

قد يبدو كل هذا مبالغة، أو كلاما مجردا بلا معنى، لذا فلنأتي بصلب الموضوع، الحقيقة الجوهرية في ذلك، أنكم أنتم المقبلون على التخرج لا تملكون أي فكرة عما يمكن أن يعني “يوم يبدأ، ويوم ينتهي” على الرغم أنها تشكل جزءا كبيرا من حياة الأمريكيين البالغين، إلا أن خطابات التخرج لا تتطرق له، هذا الجزء يحوي السأم، والرتابة، والإحباط المستمر. الآباء وكبار السن هنا يعرفون جيدا عما أتحدث عنه.

لنأخذ يوما عاديا كمثال; تستيقظ صباحا، تزاول وظيفتك الشاقة، تعمل بجد لتسع أو عشر ساعات، تعود في نهاية اليوم متعبا ومنهكا، وكل ما تريده هو وجبة غداء جيدة وربما راحة لساعتين، ثم تعود إلى السرير مبكرا لأنه عليك أن تستيقظ اليوم التالي لتكرر كل ذلك. لكنك تتذكر ألا طعام متبق في المنزل -لأنك لم تملك الوقت للتسوق هذا الأسبوع بسبب عملك- وتريد الآن أن تركب سيارتك متجها إلى السوق المركزي في وقت الذروة، الشوارع مزدحمة والوصول إلى المتجر يأخذ زمناً أطول مما يجب، وحالما تصل أخيرا، تجده مزدحما أيضا، لأنه بطبيعة حال هذا الوقت كل الناس تخرج من أعمالها وتنخرط بين الجموع لتشق طريقها للتسوق. والمتجر مضيء ومشتعل وبشع، تشتغل فيه أغاني رديئة تقبض الروح، آخر مكان تتمنى أن توجد فيه.  لكنك لا تستطيع أن تدخل وتخرج سريعا، عليك أن تجول في مساحاته الشاسعة ورفوفه المكتظة لتعثر على مبتغاك، عليك أن تحكم عربتك الخربة نحو كل هؤلاء الناس المتعبين والمستعجلين بعرباتهم، وبالطبع هناك كبار السن المتجمدون، والشاردون، وأطفال مصابون بفرط الحركة يعطلون الطريق، وعليك أن تعض على أسنانك وتحاول أن تطلب بلطف أن يسمحوا لك بالعبور. وأخيراً .. تنتهي من الأشياء التي تريد، غير أنك تكتشف ألا صناديق دفع مفتوحة كافية على الرغم أنه وقت الذروة من اليوم، والطابور الوحيد الذي يعمل طويل إلى حد لا يمكن وصفه. وتشعر كم أن كل هذا غبي ومحبط، لكنك لا تقدر التنفيس على المرأة الهائجة في صندوق الدفع. على أية حال، تصل أخيرا إلى صندوق الدفع، وتنتظر ريثما تنتهي من بطاقتك في الجهاز أو فاتورتك، ثم يُقال لك “يوما سعيدا” بصوت هو حقا صوت الموت. وعليك الآن أن تأخذ أكياسك الرقيقة على العربة، وتدفعها عبر وعورة مواقف السيارات القذرة والمزدحمة، تحاول أن تعبئ سياراتك بالأكياس على ألا يسقط شيء منها أو يتدحرج في صندوق السيارة أثناء القيادة، ثم عليك أن تمر خلال الشوارع البطيئة  بين السيارات الثقيلة والكبيرة …إلخ

النقطة هنا أن حالة الإحباط هذه هي ما تستدعي الاشتغال على الاختيار، لأن الشوارع المزدحمة والصفوف المكتظة والطوابير الطويلة تمنحني الوقت للتفكير، وإن لم أتخذ قراراً واعيا حول ما أفكر فيه أو ما أدركه سأتسبب لنفسي الكآبة  والغضب كلما ذهبت للتسوق، لأن وضعي التلقائي الطبيعي يحتم أن مواقف كهذه كلها تتمركز حولي، حول جوعي وتعبي ورغبتي في العودة للمنزل، وسيبدو أن كل العالم كأي شخص آخر عائق أمامي “فمن هم كل هؤلاء في طريقي؟” ” انظر، كم من هؤلاء في طابور الدفع مقيت، أحمق، شبيه بالأبقار، فارغ ، كائن غريب” أو “انظر،  إلى الغبية التي تتحدث بالهاتف بوسط الطابور” أو “انظر،  كيف ليس من العدل أن أعمل جاهدا طوال اليوم وأشعر بالجوع والتعب، ولا أستطيع حتى أن أعود إلى البيت وأرتاح بسبب كل هؤلاء الحمقى”

وبالتأكيد لو كنت أعي اجتماعياً وضعي التلقائي سأقضي الوقت في نهاية اليوم وسط الزحام مقرَفا ومتذمراً من كل السيارات الضخمة وسيارات النقل والدفع الرباعي ، يحرقون مئتي لتر وقود، مبدداً بأنانية، وأستطيع أن ألاحظ الملصقات الدينية والبيروقراطية أكبر ما تكون عليها، أشد السيارات قرفاً يقودها أكثرهم قبحاً، عديمو المسؤولية والمتهورون يتحدثون على الهواتف ولا يبالون بمن حولهم كي يجتازوا خمسة أمتار غبية في الزحام، أستطيع أن أتخيل كيف أحفادنا سيلعنونا لتبذيرنا كل هذا الوقود وإفسادنا للبيئة، وكيف أننا مدللون ومقفرفون، وكيف أن المجتمع الحديث الاستهلاكي مقزز .. وهكذا

لو اخترت التفكير بهذه الطريقة، لا بأس، كلنا نفعل ذلك سوى أن هذه الطريقة في التفكير سهلة وعفوية ولا تستدعي أن تكون خياراً، التفكير بهذه الطريقة هو الوضع التلقائي الطبيعي، غير الواعي لتجارب الملل والإحباط، تصورات لا شعورية أنني أنا مركز الكون وكل حاجاتي الحالية ومشاعري هي ما تحدد أولويات العالم.

الأمر هو أن هناك طرقاً كثيرة واضحة يمكن التفكير فيها بهذه المواقف، ففي الزحام مثلا: ليس مستحيلا أن يكون بين كل هذه السيارات الضخمة العالقة في طريقي من مر بحوادث مريعة في الماضي، وهو يجد الآن القيادة أمراً مرعباً، وقد نصحه طبيبه النفساني أن يقود سيارة ضخمة أو دفع رباعي حتى يشعر بأمان أكثر. أو أن سيارة “Hummer” التي قطعت الطريق فجأة، ربما يقودها أب معه طفله المريض أو المصاب بجانبه هرعاً إلى المشفى، وله حق الاستعجال أكثر مني، وأنا من يعيق طريقه. أو أختار أن أدفع نفسي للاعتقاد باحتمالية أن الآخرين في طابور الدفع ضجرون ومنزعجون نفسي، وأنه على الأرجح كثير منهم يمرون بحيوات أشد ألما وغلظة من حياتي.

مرة أخرى، أرجوكم لا تظنوني أقدم درساً أخلاقياً، أو أقول أنه يبنغي أن تفكروا بهذه الطريقة، أو يتوقع أحد منكم القيام بذلك تلقائيا، لأنه أمر صعب ويتطلب إرادة وجهداً ذهنياً. وإذا كنتم مثلي، ستأتي أيام لن تقدروا على فعل ذلك إطلاقا، أو ببساطة ستفقدون الرغبة. وبالعكس، في معظم الأيام إن كنتم مدركين بشكل كاف أن تعطوا أنفسكم خياراً، تستطيعون اختيار النظر بطريقة مختلفة للمرأة البدينة، الفارغة، المشتاطة غضبا، التي صرخت للتو على طفلها الصغير في طابور الدفع; ربما هي ليست هكذا في العادة، أو ربما قضت ثلاث ليال ممسكة بيد زوجها الذي يحتضر بسرطان العظام، أو ربما تكون موظفة ذات دخل متدن في مكتب بيع السيارات وقد ساعدت بالأمس شريكها  في مشكلة كابوسية.  بالتأكيد، ليس أياً من هذا محتمل، ولكنه ليس مستحيلا، يعتمد فقط على ما تود أن تفكر فيه، إن كنت متأكداً تلقائياً أنك تعرف ما هو الواقع، وبوسعك أن تستكشف -بوضعك التلقائي- من وما هو المهم، فأنت مثلي لن تبعد الاحتمالات المزعجة والكئيبة منك، ولكن إن تعلمت حقا كيف تفكر، كيف تنتبه، ستعرف أن عندك خيارت أخرى، ستكون تحت سيطرتك لتكتشف أن  المواقف المزدحمة، الصاخبة، البطيئة، المنغمسة بالاستهلاك ليس باعتبارها ذات معنى فحسب ولكن مقدسة، محترقة بذات القوى التي تشعل النجوم، الحب، الرفقة، والوحدة الروحية في عمق كل الأشياء، لا يعني هذا أن الأمور الروحية حقيقية بالضرورة، الشيء الوحيد الحقيقي هو أنك سوف تقرر كيف ستراها.

الحرية في التعليم الحقيقي هي السبيل لتعلم كيف تكون منضبطاً، أن تقرر واعياً ما الذي يحوي معنى وما هو غير المجدي، تقرر ما الذي ستعبده. لأن -وهذا أمر غريب ولكنه حقيقي- في رتابة أيام البالغين ليس هناك إلحاد، ليس هناك أحد لا يعبد، الكل يعبد، الاختيار الوحيد الذي نملكه هو مالذي نعبد، والأمر الفاتن في العبادة سواء كان إلها أو أمرا ماورائيا، فليكن  المسيح أو الله أو يهوه أو إله الأم (في ديانة الويكا) أو الحقائق النبيلة الأربع (في الديانة البوذية) أو الإيمان بمجموعة من الأخلاق،  أن أي شيء تعبده سيقضي عليك حياً، إن تعبد المال -وكنت تجد فيها المعنى الحقيقي في الحياة- لن تحصل على ما يرضيك ولن تشعر أنك مكتف، إنها الحقيقة. إن تعبد جسدك وجمالك وجاذبيتك الجنسية، ستشعر دائماً أنك دميم، ومتى يمر العمر والوقت ستموت ملايين الموتات قبل أن تفنى.

جميعنا نعرف هذه الأمور مسبقا، صيغت لنا كخرافات أو أمثلة أو عبارات مبتذلة وساخرة، أساس كل قصة عظيمة، والمفتاح يكمن في إبقاء هذه الحقيقة في وعيك. إن تعبد القوة، ستشعر بالضعف، وستتطلب مزيداً من القوة على الآخرين لإبعاد الخوف عنك. إن تعبد الفكر، كي يقال عنك مثقف وذكي، ستأتي في النهاية تشعر بالغباء، والزيف، دائماً على شفا حفرة من أن تُكشف .. وهكذا

الأمر اللئيم في هذه الأشكال من العبادة ليس أنها شر أو خطيئة، بل لأنها لاواعية، وضع تلقائي، هذا النوع من العبادة تغوص فيه تدريجيا يوما بعد يوم، تنتقي ماذا ترى وعلام تقيس القيم، بغير إدراك كامل، هذا ماتفعله.

والعالم لن يوقفك عن إبصارك الأمور بوضعك التلقائي، لأن عالم الناس والمال والسلطة  يدندن بهدوء على مزيد من الإذلال والإحباط والرغبة وعبادة النفس. ثقافتنا المعاصرة سخّرت كل هذه القوى لتمنح ثروة هائلة، وراحة، وحرية شخصية، حرية أن نكون أسيادا لمملكة جماجمنا الصغيرة، وحيدين في مركز الكون.

هذا النوع من الحرية هو الموصى به، بالطبع هناك أنواع مختلفة للحرية، والنوع الأثمن الذي لن تسمع الكثير يتحدث عنه بتبجيل خارج أوساط الرغبة والاستعراض، النوع المهم الذي يتطلب الانتباه والإدراك والإلتزام والجهد، وقدرتك على الاهتمام بالآخرين والتضحية لأجلهم، مرة تلو الأخرى، بطرق تافهة ومنفرة، كل يوم، هذه هي الحرية الحقيقية، هذا ما يعنيه أن تكون متعلماً حقيقياً. البديل هو اللاوعي، الوضع التلقائي، “سباق الجرذان”[3] إحساس القلق الدائم أنك  حصلت على شيء لانهائي وخسرته.

أعرف أن ذلك لا يبدو ممتعا ومرحا أو محفزاً، وما هو عليه أنه الحقيقة منزوع عنها البلاغة. من الواضح أنه يمكنك التفكير بما شئت، لكن أرجوك لا تعتبره موعظة من د.لورين[4]، ليس أيا مما ذكرت له علاقة بالأخلاق أو الدين أو العقائد، أو بالأسئلة الكبرى حول الحياة أو الموت، الحقيقة هي عن الحياة قبل الموت، عن وصولك لعمر الثلاثين أو ربما الخمسين دون الشعور برغبة أن تطلق النار على رأسك، عن الوعي البسيط، الوعي بما هو حقيقي وضروري، المستتر عن أعيننا المجردة، وعلينا أن نظل نذكر أنفسنا مرارا “إنه ماء، إنه ماء” من الصعب القيام بذك، أن تبقى واعياً وحياً في كل يوم يبتدأ وكل يوم ينتهي


ترجمة : مبارك كمال