(الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) أما بعد: فهذه الباقة الثالثة من روضة التأملات في كتاب رب الأرض والسماوات، نسأل الله أن ينفع بها الكاتب والقارئ والناشر:
-------
➊ (تَبَّت يَدا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد: ١]
قرابتك من أهل الصلاح نعمة فإن شكرتها واقتفيت أثرهم كنت أسعد الناس، وإن كفرت فأنت أتعسهم.
(تبَّت) أي خسِرت، والخسارة كل الخسارة في الإعراض عن هدي الأنبياء، فتبًا لمن زعم أن تنحية هدي محمد صلى الله عليه وسلم فيه التقدم والازدهار والرخاء والأرباح والنجاح.
أبو لهب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه فرصة بل فرص فلم يقتنصها، وهو الآن نادم أشد الندم لأنه (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) فلا تفوت فرصة متابعة خير الخلق وإلا ستندم ولات حين مندم، وتكون (لِجَهَنَّمَ حَطَبًا).
➋ (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 2]
ما من إنسان إلا وله معبود، إما حق أو باطل، والتمييز بينهما إنما يكون بالوحي المنزَّل من الحق سبحانه.
لا تكتمل عبادتك لله حتى تجعلها خالصة بريئة مما يعبدون، فأنت تعبد ما لا يعبدون.
بعث الله الأنبياء رحمةً للناس، ومن الرحمة بأهل الباطل البراءة مما يعبدون؛ حتى يستيقنوا أنهم على باطل، فتكون البراءة عون للباحث عن الحق منهم، وحجة على المعاند المكابر، أما التمييع فهو خداع وغش لأهل الباطل وفتنة لأتباع الحق وإن زعموا أنه تعايش.
مفهوم العبادة شامل لكل نواحي الحياة، فمنهج المسلم في الأخلاق والأسرة والمعاملات والسياسة والاقتصاد والمال والحُكم والاتفاقيات والعلاقات الدولية وغيرها (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ).
من العِزَّة المطلوبة من المسلم إعلان البراءة من الباطل وأهله، وعدم الخوف أو الخجل من ذلك، فأهل الباطل ينفقون الأموال الطائلة لترويجه وتلميعه ويفرضونه على الناس من غير أن تتحرك لهم شعرة.
إذا لم تعبد الله الحق فستكون في دائرة (مَا تَعْبُدُونَ) مع أهل الباطل الذين (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ).
➌ (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) [الكافرون: 2]
من أسماء الله الكريم، فمن صبر في الدنيا الزائلة التي هي (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) جازاه الكريم سبحانه في الآخرة جنة ليست متاع قليل (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فسبحان الكريم سبحانه.
أهل الدنيا يصبرون صبرًا عجيبًا ليس لجنة ولكن لمال أو لهو أو شهوة، فحريٌ بنا أن نصبر عن الشهوات وعلى الطاعات والفارق في الجزاء كالفارق بين الدنيا والآخرة.
ما حُرِّم عليك في الدنيا من الشهوات واللهو ستنال أفضل منه في الجنة، حيث لا عناء ولا فناء، فقط (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).
الصبر مذاقة مُرّ، وحمله ثقيل على النفس، فهو منع من معاصي شهوات، والتزام بطاعات، وتقبل لأقدار مؤلمات، ولكن كل هذا ينسى عند أو غمسه في الجنة.
➍ (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) [الكوثر: 3]
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلْقًا وخلُقًا، ومع ذلك أبغضه الأشقياء، فاتباعك له لا بد وأن يولد لك أعداء يبغضونك.
(شَانِئَكَ) أي مبغضك، (الْأَبْتَرُ ) "المُنْقَطِعُ أَثَرُهُ، المَقْطُوعُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ" وبمفهوم المخالفة محبك يا أيها النبي هو الموصول إلى كل خير وسعادة، والمحبة الحقيقة هي التي تترجم إلى اتباع لا مجرد شعارات.
معاداة الصالحين وبغضهم انقطاع عن الخير، وفي صحبتهم الوصول إلى جنات النعيم.
المبغض للحبيب المصطفى أو صاحب من أصحابه، أو زوجة من زوجاته، أو سنة من سننه، أو حكم من أحكامه، كل هؤلاء مبتورين منقطعين، نعوذ بالله منهم ومن أعمالهم.
الذي يحكم بغير ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم له نصيب من قوله تعالى(هُوَ الْأَبْتَرُ ).
➎ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص: 3]
الهداية نعمة عظيمة، توفيق من الهادي جلَّ وعلا؛ ألا ترى أن هناك ضُلَّال ينسبون لله سبحانه الولد، مع أن هذا باطل فطرةً وعقلًا ومنطقًا وشرعًا.
نسبة الولد لله -جلَّ وعلا- شتمٌ له سبحانه؛ ففي الحديث (وأمَّا شَتمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخَذ اللهُ ولَدًا! وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لم ألِدْ ولم أُولَدْ) وإن تعْجبْ فعَجَبٌ ممن يهنئ أقوامًا بشتمهم لخالقهم، كمن يهنئ النصارى بعيد ميلاد المسيح الذي يزعمون أنه ابن الله، فكيف يهنِّئون من يشتم الله سبحانه مع أنهم لا يرضونه لأنفسهم (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا).
(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي لجحود، فإذا جحد بعض الخالق خالقهم ورازقهم، فكيف تريد منهم أن ينصفوك وأنت مجرد بشر مثلهم، فوطِّن نفسك على وجود الجحود والنكران من بعض البشر ولو كانوا ممن أحسنت إليهم أو كانوا أقرباءك.