كثيرة هي المناطق التي كانت تعج بالحضارة وتزهو بالمعرفة في الزمن القديم ؛ اصيبت بالدمار والخراب , ولف غبار الدهر هياكلها , وطلقتها الدنيا طلاقا بائنا لا رجعة فيه , وامست اثرا بعد عين , ومن هذه المناطق المنكوبة جنوب العراق العظيم , ولاسيما محافظة ذي قار , ارض الامجاد والحضارات والعنفوان والكبرياء , فالناصرية منذ العهد السومري والى هذه اللحظة مدينة تأبى الخضوع والخنوع , وكان أهل ذي قار في طليعة الانتفاضات التي قام بها شيعة الجنوب ضد الاستعمار البريطاني ؛ ثم في عام 1991، عندما انتفض نهض ضد طاغية تكريت وزبانيته الاوغاد ، ألقت الناصرية بنفسها في المعركة .
وبعد السنوات البعثية العجاف وعقود الجوع والحرمان والبؤس والخوف وايام الحصار القاسي التي تعرض لها اهالي الناصرية ؛ وتغير الاحوال بعد سقوط النظام البائد ؛ لا زالت الاوضاع ليست بالمستوى المطلوب , اذ يعيش أكثر من 40 في المائة من سكانها تحت خط الفقر ، ومعدلات الفقر والبطالة يتصاعدان , يوما بعد يوم , والدنيا ضاقت بالناس بما رحبت ؛ بسبب انعدام الخدمات والبنى التحتية وفرص العمل , وانتشار الجهل والامية والتخلف والامراض والاوحال والاتربة والغبار والاوساخ والمخدرات والمشاكل الاجتماعية والنزاعات العشائرية , والحركات الدينية المنحرفة و الاحزاب الفاسدة ؛ فضلا عن سوء استخدام مواقع الشبكة العنكبوتية و وسائل التواصل الاجتماعي وما يترتب على هذا الامر من تداعيات خطيرة ... الخ .
وضاق الشباب ذرعا بهذه الاوضاع المزرية , وقطعوا الشوارع والطرق واعلنوا العصيان , وشاركوا في التظاهرات والاحتجاجات الا انه وللأسف ؛ استغل البعض من المشبوهين والمنكوسين والمحسوبين على شيوخ العشائر والساسة والعملاء المرتبطين بالخارج والسفارات الاجنبية ؛ هذه التظاهرات و أسأؤوا اليها , من خلال دفع الشباب الى الاعتداء على رجال القانون و دوائر الدولة والممتلكات العامة والخاصة وحرق الاطارات والمقرات ... الخ .
فعلى الرغم من توسّطها جغرافياً جنوب العراق، وسباحتها على بحيرة من النفط، إلا أن مدينة الناصرية تعاني الفقر والإهمال، إضافة إلى مشكلات إدارية وسياسية، كما باتت مركزاً للاحتجاجات والثورة على الظلم وحاملة راية المطالبة بالإصلاح ؛ و هدفا سهلا لتدخلات ومؤامرات دول الجوار والقوى الاستكبارية والاستعمارية وعملائهم الخونة .
وتعرضت المحافظة لتحالف مجموعة من القوى الظلامية المنكوسة , هدفها تدمير الناصرية والحاق الاذى والضرر بأبنائها الاصلاء , ومن هذه القوى : العشائرية وخروجها عن القانون وارتباط بعض شيوخها بالخارج والسفارات وعبثهم بالسلم الاهلي والامن المجتمعي ... ؛ والمؤسسة الدينية المنكوسة والتي ترتبط بالدوائر والجهات الدولية المشبوهة لإغواء الشباب والايقاع بهم وغسل ادمغتهم وتعطيل قواهم العقلية ... ؛ والساسة الخونة والعملاء والفاسدين الذين يعملون على سرقة موارد المحافظة ونهب خيراتها بالإضافة الى عدم الاهتمام بها وتجاهل مطالب اهلها في العيش الكريم وتوفير الخدمات الضرورية والتآمر عليها ... ؛ نشاطات تجار المخدرات وارتباطاتهم المشبوهة بالجهات الخارجية المعادية والداخلية الفاسدة والمخربة , وتنوع طرق فعالياتهم الشيطانية في الايقاع بالضحايا وتوريط الشباب بالأعمال المحرمة والممنوعة وارتكاب الجرائم والافعال المشينة والمخزية ... الخ .
ونتيجة لما تقدم , انتشرت ظاهرة مؤلمة ومأساوية تتفطر لها القلوب وتدمع العيون , الا وهي ظاهرة الانتحار , فقد أكد مصدر أمني مطلع في محافظة ذي قار، اليوم الأربعاء 24 / 4 / 2024، أن المحافظة قد سجلت قبل نحو يومين وخلال 24 ساعة فقط 6 حالات انتحار توزعت بين الناصرية وقضاء سوق الشيوخ والغراف وقضاء الرفاعي... ؛ وأوضح المصدر أن «أسباب انتحار هذه الحالات كانت مختلفة وليست جميعها مرتبطة بالجماعة الدينية المنحرفة المسماة بـ (القربان) التي يدعي أتباعها أن الإمام علي بن أبي طالب هو بمنزلة آله ، حيث ترتبط بعض الحالات بتعاطي المخدرات وبوجود مشاكل أسرية واجتماعية، ولكن يوجد جزء منها مرتبط بهذه الجماعة»... ؛ مبيناً بأن «جماعة (القربان) الدينية المنحرفة تستهدف المراهقين وصغار السن تحديداً وتقدم لهم أفكاراً منحرفة بإطار ديني وتقنعهم بالانتحار وتقوم باختيار الأشخاص المنتحرين عن طريق القرعة، وهم يستغلون أوضاع بعض الشباب المتردية لنشر أفكارهم المنحرفة، وقد قامت القوات الأمنية بإطلاق حملة لملاحقتهم وقد اعتقلت منهم مجموعة من الأشخاص وما زالوا يخضعون لعملية التحقيق» .
وكان مصدر محلي في ذي قار، قد كشف لوسائل الاعلام في 15 آيار/ مايو 2023، أن جماعة تطلق على نفسها "القربان" في قضاء سوق الشيوخ، جنوبي محافظة ذي قار، أثارت الرعب بين صفوف المجتمع المحلي بعدما أقدم أحد أفرادها على الانتحار شنقاً مؤخراً بواسطة حبل داخل أحد المواكب الحسينية في القضاء المذكور ؛ وأوضح أن "هذه الجماعة يقول أفرادها إنهم يعبدون الإمام علي، وإنهم بين الحين والآخر يجرون قرعة فيما بينهم، ومن يظهر اسمه يذهب قرباناً للإمام"، مؤكدا أن "لغاية الآن تم تسجيل 3 حالات انتحار في ذات المكان، والموكب الحسيني يقع جنوبي الناصرية" ...!!
ان ارتفاع معدلات الانتحار مؤشر خطير يهدد الاستقرار المجتمعي ، وعليه اصبحت الحاجة ملحة الى الدراسات النفسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية والامنية والتي تخص واقع المحافظة ؛ فضلا عن الابحاث والدراسات الميدانية ؛ لغرض بحث اسباب ودوافع الانتحار ووضع المعالجات الممكنة للحد منها ... .
و قال رئيس لجنة الصحة والبيئة في مجلس محافظة ذي قار الدكتور احمد الخفاجي فيما يخص تورط جماعة ( القربان ) بحالات الانتحار : (( ... هذا الامر متداول عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لكن ليس لدينا كلجنة الصحة معلومات مؤكدة حول ذلك ... ؛ واستدرك قائلا : قد تكون هناك معلومات عن الامر لدى الجهات الامنية والاستخباراتية حول هذه الجماعة او حول ما يشاع عن ارتباط بعض حالات الانتحار بدوافع دينية ... ، واضاف : ربما يكون هذا احد الاسباب غير ان ما هو مؤكد هو تسجيل حالات انتحار بدوافع اخرى متعددة من بينها الفشل الدراسي او الخلافات الاسرية أو دوافع اقتصادية كالبطالة وشحة فرص العمل وارتفاع معدلات الفقر واسباب اخرى ستخضع للدراسة وبحث المعالجات لها ضمن اجتماعات مجلس المحافظة المقبلة ...)) .
و بدوره، قال سكرتير خلية ازمة الانتحار في محافظة ذي قار علي الناشئ في تصريح سابق : إن "عام 2022 شهد قفزة خطيرة في حالات الانتحار اذ بلغت 105 حالة انتحار بعد ان كانت 85 حالة في العام الذي سبقه"... ؛ وقال رئيس منظمة التواصل والاخاء الانسانية : ان "حالات الانتحار المسجلة تقابلها اعداد مضاعفة من محاولات الانتحار الفاشلة التي تخشى الاسر الكشف عنها لاعتبارات اجتماعية او قانونية"... ؛ ولفت، إلى أن "أعداد النساء المنتحرات تفوق قليلا اعداد الرجال اذ سجل عام 2016 انتحار 28 امرأة و20 رجلا، فيما سجل العام الذي يليه انتحار 28 امرأة و25 رجلاً"... ؛ وكشفت منظمات مجتمعية ومؤسسات حكومية في ذي قار خلال ايلول 2023 عن اثر الابتزاز الالكتروني في رفع معدلاته الانتحار بين النساء، فيما اكدوا تسجيل ارتفاع متنامي لا يقل عن 25 بالمئة في اعداد المنتحرين سنوياً، دعوا الى تبني برامج اقتصادية واجتماعية وتوعوية للحد من انتشار ظاهرة الانتحار بين اوساط الشباب ... الخ .
ومما لاشك فيه ان اسباب الانتحار كثيرة ومعقدة ؛ ولا يمكن حصرها في قضية جماعة ( القربان) فالبعض يريد منا غض الطرف عن فساد الحكومات المحلية والمركزية في اهمال المحافظة وشؤون اهاليها وعدم معالجة الامور بالحكمة والمعرفة ؛ والقاء اللوم على جماعة ( القربان ) وتحويلها الى شماعة للأخطاء الحكومية والكوارث الكثيرة والمتعددة فيها ...؛ متجاهلا عن عمد الهشاشة النفسية وقسوة الظروف الاجتماعية وفقدان الأمل التي يعاني منها شباب المدينة ... ؛ فالناس في الناصرية بالكاد ؛ متمسكون بخيط رفيع يربطهم بالحياة ؛ وابسط صدمة يتعرض لها الشاب قد تعرض هذا الخيط للقطع وموت الشخص بالتالي ؛ والذي ينتشر خبر انتحاره بين الناس بسرعة مذهلة , كانتشار النار في الهشيم , مما ينعكس سلبا على المجتمع والصحة النفسية العامة , فهذه الظاهرة الخطرة لها اثار وخيمة على الاطفال والمراهقين المولعين بتقليد الكبار ؛ لاسيما وان مشاهد الانتحار البشعة لا تمحى من الذاكرة .
الناصرية كانت ولا تزال مدينة مهملة وتعيسة وهرمة لا تصلحها الحلول الترقيعية او التصريحات السياسية ؛ فهي لا تصلح للعيش والسكن , بسبب الظروف المأساوية القاهرة ... ؛ وليس الفقر والبطالة كل ما تعانيه ذي قار، فهي تعدّ واحدة من البؤر في العراق لتجارة المخدرات، كما أن الجفاف والتغير المناخي الذي يضرب كل العراق، أثّر بشكل كبير على سكان ذي قار، الذين يعيش جزء كبير منهم في الأهوار، الآخذة بالجفاف أيضًا.
وسخر احد ابناء محافظة الناصرية من الذرائع الحكومية عن جماعة “القربان” وقال : قد تكون صحيحة مع انتحار شخص أو اثنين تحت وطأة السقوط في هوة الخرافة التاريخية والدينية ، لكن هل يمكن أن نعزو كل حالات الانتحار التي شهدتها المدينة خلال السنوات الماضية إلى هذه الجماعة المحدودة ...؟!
وحذر بعض الشباب : من أن جيلا كاملا يكاد يفقد الأمل بعد قمع التظاهرات وعدم الاستجابة للمطالب والمناشدات ؛ لذا اضحى الانتحار لبعض الشباب هو الحل الامثل للتخلص من حياته التي لا تطاق بسبب الظروف المعيشية ... ؛ وتؤكد منظمة الصحة العالمية، أن واحدًا من كل أربعة عراقيين يعاني من هشاشة نفسية في بلد يوجد فيه ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص ...!!
ويوجد في الناصرية أربعة أطباء نفسيين بينما يبلغ سُكان المحافظة نحو مليونين و300 ألف نسمة... ؛ وكل طبيب من أولئك الأربعة يتعامل مع خمسة أضعاف المعدل العالمي الذي يفترض طبيبًا مقابل 100 ألف نسمة.
ونأمل من الحكومة الحالية ورئيس الوزراء السوداني ؛ الالتفات بجدية لمشاريع تطوير وتحديث المحافظة وتقديم افضل الخدمات لأهاليها الاصلاء ؛ وقد أعلن رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، اثناء زيارته للناصرية خلال الاشهر الماضية ؛ عن عدة مشاريع استراتيجية في محافظة ذي قار...؛ ومنها الاعلان عن مشروع مدينة سكنية جديدة على أرض تبلغ مساحتها 8000 دونم وبواقع 30 ألف وحدة ضمن مشاريع المدن السكنية التي تتبناها الحكومة ... ؛ و مشروع مدينة طبية في مدينة الناصرية تضمّ مراكز طبية تخصصية ... ؛ و مشروع إيصال الماء الصالح للشرب إلى قضاء سيد دخيل بكلفة 30 مليار دينار... ؛ و أكد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، في وقت سابق : أن مشروعي مطار الناصرية وتطوير مدينة أور سينقلان المحافظة إلى واقع جديد ... ؛ وأكد السوداني، أنّ "المسؤولية تضامنية بين أعضاء مجلس المحافظة والمحافظ في متابعة المشاريع، وهذا يتطلب العمل بروح الفريق الواحد"، موضحا، أن "المواطن سيراقب الأداء وهو ينتظر الفرصة الأفضل والخدمة الأحسن"... ؛ وأشار رئيس الوزراء، إلى أن "الحكومة تريد طيّ ملف المشاريع المتلكئة تماماً، وعلى المحافظ خفض عدد المشاريع المتلكئة"، لافتا، إلى أن "هناك مشاريع كبيرة ستُمول من خارج موازنة المحافظة، إذ ستتولاها الحكومة الاتحادية، مثل مشروع خدمات سوق الشيوخ المتكامل، الذي تزيد تكلفته عن 400 مليار دينار".