لو أردت تلخيص الرواية في مقطع واحد منها قبل الخوض في بعض ما علق في ذهني بعد قرائتها فسوف يكون قول القائد القصير ذي اللحية السوداء – هكذا كان تعريف الكاتب له طوال الأحداث رغم تسميته لبقية الشخصيات كلها، ربما ودّ أن يبهنا إلى مسألة مهمة و هي عدم شخصنة هذه المكانة العظيمة: قيادة فيالق المسلمين نحو النصر و استرداد المجد الضائع، فلا يهم هنا اسمه و لا نسبه بقدر ما تهم خصائله و فضائله و مناقبه- قال هذا القائد:

و ثقوا أنكم عائدون يوما إلى المعركة و عائدون إلى الديار السليبة (..) و ستكون حربا مقدسة لتطهير جبهاتنا الداخلية و حياتنا السياسية و الإجتماعية من الفساد و الإنتهازية، و بعدها نعود إلى المعركة الكبرى أكثر قوة و إيمانا، و نعود و ليس وراء ظهورنا خيانة تدبر

هذه الرواية تمنحك فرصة لتعيش أجواء الإعتداء و التهجير و الظلم الذي عاشه إخواننا في فلسطين
تعيد هذه الرواية فيك الإحساس بالقضية الكبرى التي تجمع كل المسلمين، حقهم المنهوب و دينهم المسلوب و عرضهم المُستباح، تُحي فيك نخوة لا كما تفعل التقارير الإخبارية الباردة و لا العناوين المأجورة الصفراء، تصف لك بعضا من مشاهد الأسى و الظَيْم الذي أَلَمَّ بشعب فلسطين، و تُصوِّر لك جرائم المُستبد الصهيوني حتى يظل العَداء للظالمين ما لم يُقتص منهم
عندما تغوص بين مشاهد الرواية و تنزل بجسدك و حواسك بين خيام اللاجئين و ثغور المرابطين و مدائن المُهَجَّرين، تسمع أنَّاتِهم و تُؤرِقك زفراتهم و ترى استبسالهم و الدم يُخَضِّب أَكُفَهُم، و الدمع أَنْدَى خُدودهم، و الهَمُّ أَصْدَى قُلوبهم .. و أنت حينذاك لست تملك نفسك إذ فاضت عليها شُجون من مجد ضائع و شرف مُهَتَّكٍ و وطن سليب، فتَغَشَّاها أمانِيَّ و دعوات أن تَحْمِلَ على العَدُوِّ فتُجْهِزَ عليه و تشفي منه غليل صدور قوم قم أَهَمَّهُم مُصابُهم و أَجْهَزَ عليهم إخوانٌ لَهُم أسلموا قيادهم لعدوهم
فهذه الرواية، ما قرأتها إلا لأتذكر أصل المعركة، و لا أنسى شراراتها الأولى، فإن ذلك أحرى أن يُثَبِّت المرء في غَمَراتها

و مما استفدته و مازلت ألحظه بين كتب التاريخ و روايات الغابرين، ضرورة تنقية الصف من الداخل قبل العزم على الإقدام على العدو، فيا لله ما أكثر المنافقين و الخائنين، بائعي الدين بالدنيا و مسلمي قياد إخوانهم لأعدائهم، رضوا بعار التاريخ، و خساسة محاربة أهل الحق. إن الأولى هو تمحية شوائب هؤلاء حتى لا يكونون عَقَبَةً في الطريق نحو المقصد الأعظم، فإن طعنة في الظهر أشد إيلاما، و أبلغ أثرا من ضربة مباشرة من العدو.

الدكتور نجيب أبدع في إكساء شخصياته ماديا و معنويا، فلئن أَغْلَبَ على أوصافهم الجسدية و الملامح الظاهرة الشُحوب و الضُمور و الشُرود في صورة مُعاكسة للواقع المعيش و الفترة الزمنية الحرجة  للأحداث، فقد أَكْسَى بواطنهم و أفئدتهم بسلام الإستسلام لقدر الله عز و جل و قوة الأمل و الثقة في موعوده تعالى، في إشارة إلى الطريق الوحيد للنصر، فليست النفسية المنهزمة و لا القنوط من تأييد الله عز و جل ما قد يعيد المسلوب يوما

فائدة أخرى عظيمة خرجت بها من هذه الرواية، ذُكرت أولها في الحقيقة و هي سبب هذا البلاء المسلط و مَرَدُّهُ أولا و أخيرا لإستعذاب الأمة للنوم و الرقود بينما تُدبَرُ المكائد و تُعَدُّ العُدَّة من أعداء الله، ثم التراخي و التمزق و التشرذم ما أبقى في الأمة من وريد حي

الغريب أن رغم الموضوع المهم و الشيق للرواية و الذي ألهبني و ألهمني، إلا أني وجدت أنّ أشدّ عبارة رسخت في ذهني، وصف الكاتب لموقف ضحى و نجلاء و أبا نجلاء بعد ذكر الشيخ إسماعيل ريحان والد ضحى المتوفى :

و جلس الثلاثة صامتين لفترة، و كان في الصمت نبضات أسى عميق، أيفرحون؟ أيحزنون؟ إنهم لا بعرفون، كل ما كان في وسعهم هو أن يستأنفوا الحديث، و تمضي الحياة على علاَّتِها,,