الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسلام على خير خلقِ الله أجمعين، نبيِّنا وحبيبنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى أصحابه الطيِّبين الطَّاهرين، وعلى مَن اقتفى أثَرَه إلى يوم الدِّين.

أما بعد:

قرأتُ مقالًا بعنوان: "خطورة الإعجاز العلمي"، يتحدَّث فيه كاتبُ المقال عن أنَّ "الإعجاز العلمي ليس مِن كمال الدِّين الإسلامي، وإنَّما خطر عليه".

وتبريرًا لهذه المقولة ذكَر"التاريخ يعلِّمنا أنَّ كلَّ حقيقة علمية مهدَّدةٌ بالنَّسف بالكامل، أو بالتعديل في أحسَن الأحوال، وأنَّ المسلَّمات العلمية الخالدة ضرب من الخيال".

وهذا كلام لا غُبارَ عليه إذا اعتَبرنا أنَّ المقياس على صحَّة أيِّ حقيقةٍ علمية مِن عدمها هو جهدُ العلماء في البحث؛ بحيث كلَّما تطوَّر العلمُ واتَّسع البحثُ عن الحقائق العلمية، اندَثرتْ مسلَّماتٌ علمية في قرون سابقة، وكأقرب مِثالٍ ذكَر كاتبُنا الفاضِل: "نَشر آينشتاين 3 أوراق علميَّة قلَبتِ الفيزياءَ رأسًا على عَقِب؛ بل إنَّ حتى قوانين نيوتن المَجيدة لم تَسلَم مِن ثورة آينشتاين، هنا تجسيد مِثاليٌّ لقابليَّة الحقائق العلميَّة للتبدُّل والتجدُّد مهما كانت".

لكن في الإعجاز العلميِّ الأمرُ يَختلف كُليًّا؛ فالمقياسُ الحقيقيُّ الصَّحيح الثابت هو القرآن الكريم؛ فكلُّ ظاهرةٍ علميَّة تمَّ اكتشافُها مِن قِبل العلماء، لا يُحكم على صحَّتها إلَّا إذا وافقتِ القرآنَ الكريم، وما عدا ذلك تُعتبر نسبيَّةً غير مُطلَقة (متجددة) إلى أن يتمَّ نَسفُها بالكامل، أو أن تستمرَّ إلى يومنا هذا في نِسبيَّتها كما في النَّظرية النسبيَّة لآينشتاين.

ولا علاقة للإعجاز العلميِّ بتَفسير القرآن الكريم؛ إنَّما الإشارةُ إلى أنَّ الظَّواهر العلميَّة المُكتشفة أثبَتَها القرآنُ الكريم قبلَ 1400 عام.

فمعجزة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمَّته ولِمن جحَد برسالته هي العلمُ والقرآنُ الكريم، فيه قرابة 1300 آية تتحدَّثُ عن الكون والإنسان ولا بُدَّ للإنسان أن يكتشف بعضَ الحقائق العلميَّة.

فنسبيَّةُ أيِّ حقيقة علميَّة تتلاشى تمامًا فتصبح حقيقةً مطلقةً طالما أكَّدها القرآنُ الكريم، وهذا ما يركِّز عليه الإعجازُ العلمي.

فبالنظر إلى إثبات القرآنِ الكريم لنظريَّة الانفجار العَظيم؛ قال الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].

وقد علَّل كاتِبُنا الفاضل أنَّ بُطلان الرَّبط بين القرآن ونظريةِ الانفجار العظيم يعودُ إلى سببين:

1 -" هو أنَّه ربط بين كلام الله الثَّابت المُحكَم المَعصوم مع علمٍ متجدِّد متغيِّر، وتلك مقارنة هزيلة ".

2 - " هو أنَّه في اللَّحظة التي يُربطُ بها ما بين الآيات القرآنيَّة الصحيحة ونظريةِ الانفجار العظيم، فإنَّه يُفرض على نظرية الانفجار العظيم عدم تَغيير جوهرِها فيما يتوافق مع فَهم الآية؛ أي: إنَّها تصبح مسلَّمة عِلمية باقية؛ وهذا أمرٌ لا يعرفه العلمُ الحديث، فقد تتبدَّل النظريَّةُ بأكملها كما حدَث مع العديد من النَّظريات السابقة "

والقول بأنَّ القرآن الكريم قد أشار لهذه النَّظرية ليس قولًا باطلًا في شيء لسببين أيضًا، أولهما: أنَّ نسبيَّة الحقيقة العلميَّة تتلاشى بتأكيد القرآن الكريم لها كما ذكرنا آنفًا.

السبب الثاني: وضوح الآية التي تدلُّ على بداية الكونِ، وقد أتى العِلمُ وتوصَّل لنظريَّة الانفجار العظيم التي كان مَهْدُ هذه النَّظرية تساؤلاتِ العلماء: هل للكون بِدايةٌ؟ أم أنَّ الكون أزليٌّ؟ ممَّا أفضى بالعلماء إلى البحث الدؤوب حتى أكَّدوا أنَّ للكون بدايةً، وأطلقوا على بداية الكون الانفِجار العظيم، وقد قال الله تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ [العنكبوت: 20].

وعِلمُ الفلَك يؤكِّد على اتِّساع وتمدُّدِ الكون نتيجةَ الانفجار العظيم، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47].

وعاد العلماء ليؤكِّدوا أنَّ اتِّساعَ الكون سيَنتهي ويَبدأ الكون بالانكِماش على نفسه كبدايةٍ لنهاية الكون، وأكَّد القرآنُ هذه الحقيقة العلميَّة، فقد قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104].

" في رحلة أبولو 8 إلى القمر تَجاوز مجموعةٌ مِن رُوَّاد الفضاء طبقةَ الهواء؛ ممَّا جعَل أحدهم يصرخ قائلًا: لقد أصبحنا عُميًا لا نرى شيئًا بسبب انتثار الضوء "[1].

وهذه الظاهرة أكَّدها القرآنُ بقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر: 14، 15].

فالقرآنُ الكريم هو مُعجزة النَّبيِّ الخالدة، وهو مرسلٌ للناس كافَّةً؛ فمنهم مَن لا يؤمِن برسالته، ومنهم مَن ادَّعى أنَّ الكون أزَليٌّ ليس له بداية، حتى جاء العلمُ وأكَّد للمشكِّكين أنَّ بداية الكون مِن لحظة الانفِجار العظيم، فلا سبيلَ لدَحْض ادِّعاءاتهم إلا بتَحدٍّ مُعجِز.

فكما كان القرآن مُتحدِّيًا العربَ في بلاغتهم وفي لغتهم، ما زال أيضًا مُتحدِّيًا العلماءَ في عِلْمهم؛ فكُلُّ عالم يبحث عن الحقيقة لا بُدَّ له في نهاية المطاف أن يؤمِن بهذا الكتاب العظيم.

وأختِم بمَقولةٍ للدكتور محمد راتب النابلسي:

♦ "إيَّاك أن تَمدح القرآن لأنَّه وافَق العلمَ، لكن عليك أن تَمْدح العِلمَ لأنَّه وافَق القرآنَ".

ويغلب على ظنِّي أن كاتِبَنا الفاضِل قصَد بتوجيه هذه المقالة لفئة مِن الناس جعلوا العلمَ هو مِقياسَ صحَّةِ القرآن، لكنَّه أخطأ في نَسْف الإعجاز العلميِّ بالكليَّة واعتِباره خطرًا على الدين.

[1] الدكتور محمد راتب النابلسي.


كتبته في ٥/٨/١٤٣٨ هـ