مما لا شك فيه أن عبدالله الغماري يعد من كبار العلماء وهناك من جعله خاتمة الحفاظ، وأنا لا أختلف في المسميات فالعلم علم من أي شخص جاء طالما لم يكن صاحبه مرتزقا، ولا شك أنني أخالف الكثير من طريقة الشيخ في التفكير والاستنباط والمنهجية العلمية ولكن له آراؤه فهذا حق مكفول لمن كان أقل منه فكيف بمثله رحمه الله رحمة واسعة.

بيد أن من واجب العلم علينا أن نحقق في النقول، فلا ننسب كلاما لشخصٍ ما ونصدر فيه حكما بالرغم أن الكلام نفسه لا يصح!

وقد وقع الشيخ الغماري كما وقع غيره من نفس مدرسته بابن تيمية بأنه كان يقول لو أراد الله الاستواء على جناح بعوضة لفعل! وهذا طبعا ليس كلام شيخ الإسلام كما هو معروف، لكن هذا خطأ سرى في هذه المدرسة ولعل الله يوحي لأحدهم فيصحح مثل هذه الأخطاء العالقة والتي صارت من المسلمات.

وعلى أية حال فليس هذا همي الآن ولكني أريد تصحيح خطأ وقع فيه الحافظ -غفر الله له- في كتابه بيان صحيح الأقاويل في تفسير آية بني إسرائيل وهي قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب....) وحتى قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حَصِيرا).

حيث أن الحافظ رد على البعض ممن جعل هذا الفساد في الأرض يشمل فساد الصهاينة في الوقت الحاضر وجعل ذلك بدعا من القول ومخالفا لإجماع المفسرين، ولا شك أن كلامه هذا صحيح حيث أثبت ذلك بالأدلة ولكنه اخطأ إذ نسب هذا القول لسيد قطب! فقد يصح نسبة هذا القول للمعاصرين الذين ذكرهم فأنا لست مطلعا على كلامهم كالشعراوي وعبدالرحيم فودة وعبدالحميد واكد والدكتور إدريس الكتاني.

ولكن سيد قطب -رحمه الله- لم يجعل أي فساد لبني إسرائيل المذكور في الآية هو الإفساد المعاصر ولكنه أقر ما مضى من الفساد والعقاب ثم فهم الآيات فهمًا سننيا كعادته رحمه الله ورضي عنه فلا يدخل في التفاصيل التي يكثر منها المشايخ وإنما يخرج بالفائدة المهمة فقط وإليك نص كلامه من الظلال.

(ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميرا.

ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا. والعبرة هي المطلوبة هنا. وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود.

ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول، بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة: عسى ربكم أن يرحمكم إن أفدتم منه عبرة.

فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: وإن عدتم عدنا ..

ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها. ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" .. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف.. وإن غدا لناظره قريب!

ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:

وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا .. تحصرهم فلا يفلت منهم أحد; وتتسع لهم فلا يند عنها أحد).

هذا وقد أحببت تصحيح هذه المعلومة حتى لا يتخذها طلاب العلم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة كما فعلوا مع ما نسب لابن تيمية ومع غيره وهو كثير مع الأسف.