كان " المُقَوقسَ " عظيمُ القِبط في مِصر ، زوّج بنته أرمانوسة لـ قسطنطين بن هرقل ، و جهّزها والدها بأموالها حشماً إليه ، واستقطرت حيناً في مدينة تُدعى بُلبيْس ( مدينة في المحافظة الشرقية بمصر ) إلى أن تلقاه في بلدة في فلسطين تُدعى قيسارية .. صادف ذلك أن غار عمرو بن العاص إلى مدينة قيسارية حيث تقطن أرمانوسة .. فحاصرها حِصاراً شديداً .. و من ثمّ حدثت المعركة بينه وبين من هم فيها .. فقتل منهم زُهاء ألفِ فارس ، وانهزم من بقي إلى المقوقس .. وأُخذت أرمانوسة وجميع مالها ، وأُخذ أيضاً كُل ما للقبطِ في تلك البلدة .. فأحب عمرو مُلاطفةَ المقوقس .. فسيّر إليه ابنته مُكرمةً ومعها كُل مالها ..
كانت لأرمانوسة وصيفة تخدمها تُسمى " ماريّة " ، ذات جمال يوناني أتمَّته مصرُ ومَسحته بسحرها كما وُصفت ..
وكانت ماريّة هذه مسيحية قوية العقل والدين ، اتخذها والي مصر حينها المقوقس كنيسةً حيّةً لإبنته .. فهي زادُها الروحاني .. وموطن حكمتها ..
لمّا نزل عمرو بجيشه في بُلبيس جزعت مارية جزعاً شديداً منه ، فقد خاف الروم من هؤلاء العرب بظنهم .. قومٌ جياعٌ عصفت بهم تلك الرمال نحوهم مقبلين عطشاً .. غلاظٌ كإبلهم .. قادمون لبطونهم .. و أنّ النساء عندهم كالدواب يُرتبطن على خسف.. أصحاب مطامعٍ ونكرانٍ للأمانة ..
وأنّ قائدهم عمرو هذا .. كان جزّاراً بالجاهلية .. فما تدعهُ روحُ الجزّار ساعة .. وقد جاء بقومٍ من أخلاط الناس ليسفكون دماً .. ليس كونهم جنودٌ مدربين منظمين !
فأُفزع قلب ماريّة واستيقظت الوساويس .. فصنعت من خوفها شِعراً .. والتفّ القصيدُ حولها مواسياً لسوء المُنقلِب .. وهاهي ترجمته :
جاءكِ أربعةُ آلاف جزّارٍ أيّتُها الشاةُ المسكينة !
ستذوقُ كل شعرةٍ منكِ ألم الذبح قبل أن تُذبحي !
جاءك أربعةُ آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة !
ستموتين أربعة آلاف مِيتة قبل الموت !
قوّني يا إلهي ، لأُغمد في صدري سكيناً يردُّ عني الجزّارين !
يا إلهي ، قوِّ هذه العذراء قبل أن يتزوجها العربي !
ذهبت تتلو شِعرها على أرمانوسة في صوتٍ متوّجع .. خنقهُ الحزن .. فضحكت أرمانوسة وقالت : إنتِ واهمة يا مارية ؛ أنسيتِ أن أبي قد أهدى إلى نبيّهم بنتَ أنْصِنا ( تقصد مارية القبطية التي أهداها المقوقس للرسول صلى الله عليه وسلم وكانت من أنصنا ) .. فكانت عنده في مملكةٍ بعضُها السماء وبعضها القلب ؟ لقد أخبرني أبي أنهُ بعثَ بها إليه لتكشف عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي ؛ وأنها أنفذت إليهِ دسيساً يُعلِمهُ أنّ هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل ، وأنّ نبيهم أطهرُ من السحابة في سمائها ، وأنهم جميعاً ينبعثون من حدود دينهم وفضائله ، لا من حدود أنفسهم وشهواتها .. وإذا سلّو السيف سلّوهُ بقانون .. وإذا اغمدوه اغمدوه بقانون .. وقالت عن النساء : لأن تخاف المرأة على عفّتها من أبيها أقربُ من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي ؛ فإنهم جميعاً في واجبات القلب و العقل ، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحاً يضربُ صاحبه إذا همّ بمخالفته ..
وقال أبي : إنهم لا يُغيرون على الأمم ، ولا يحاربونها حرب المُلك ، وإنما تلك طبيعةُ الحركة للشريعة الجديدة ، تتقدّم بالدنيا حاملةً السلاح والأخلاق ، قويّة في ظاهرها وباطنها ، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم ، وبذلك تكون أسلحتهم نفسها أخلاق !