*د.عبدالله الحامد

نشرت في جريد الحياة(اللندنية) 19 رمضان/1418هـ 17م يناير/1998م

3-كيف تفقه شهر رمضان ؟:

شهر رمضان الكريم موسم من مواسم الطاعة والعبادة، تضاعف فيه الحسنات، فيه يفتح الله أبواب الاستجابة والقبول، فهو موسم يشحن طاقة المؤمن بقابس آخر هو قابس الصوم، فيشحذ الهمم إلى طلب البر والتقوى، ويهيء الله فيه لعباده فرصا من الرحمة، تفتح أبواب التوبة للعائدين، والمغفرة للمستغفرين، الذين يستثمرون فضل الزمان الشريف، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ومالك والنسائي وأبو داوود “إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين” وفي رواية أخرى “فتحت أبواب الرحمة”.

في شهر رمضان ينشط الناس للبذل والعطاء، لأن روحانية رمضان، تشعر الصائم بما للآخرين المحتاجين من حقوق، في البر والصدقة والزكاة، وسائر أنواع التكافل والتعاون، ولكن هذه الصورة المشرقة من العطاء والبذل، عندما نتأملها من خلال منظار الشريعة، نجد فيها خمولاً وسكوناً تارة، وخللاً وجهلاً تارة أخرى.

4-لماذا لا نزكي إلا في رمضان؟

كثير من الأغنياء يوقتون أداء زكاتهم في رمضان، فإذا جاءهم طالب زكاة في غيره، قالوا: تعال في رمضان، ويبدو أن هذه العادة الموسمية، تحولت إلى نوع من العبادة الشرعية.

إذ إن كثيراً من الناس، يفهم الآثار التي وردت في الحث على الصدقة في رمضان، على أنها تضاعف أجر الزكاة في رمضان أيضاً، اعتمادا على مثل ما أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل “أي الصدقة أفضل”؟ قال “صدقة في رمضان”. وهذا فهم غريب للدين، فعلى الرغم من صحة الأحاديث التي تنص على مضاعفة أجور الأعمال الحسنة في رمضان، بما فيها الصدقة والزكاة، فقد أغفلنا فهمها فهما كليا، في إطار الوحدة العضوية للشريعة،أي وضع النصوص المفصلة في مكانها الناسب من النص الكلي، بحيث يدور معنى النص مع وظيفته العضوية، بصفة الشريعة جسما متكاملاً، ومن خلال فهم الروح الكلية لمقاصد الشريعة، يمكن أن نقول أمرين:

الأول : أن أداء الزكاة مرتبط بتمام الحول، على المال المزكى. فهو أداء واجب تطلب فيه براءة الذمة، وليس عمل تطوع، يبحث فيه عن فضل الوقت أو المكان.

الثاني: أن فضل الصدقة مرتبط بحدوث الحاجة، فحيث نزلت الحاجة، تكون الأفضلية.

وقد يقول بعض الناس، إن تمام الحول على ماله هو رمضان، وهذا كلام مقبول، لو كان الذين يوقتون إيتاء الزكاة في رمضان، حوالي 8% من الناس، أي على افتراض أن تمام الحول، يكون عند بعضهم في رمضان وعند بعض في صفر، وهكذا دواليك،خلال اثني عشر شهرا.

ولكن غالب الناس يحصر صرف الزكاة في رمضان، اعتقادا منه بأن دفع الزكاة في رمضان أفضل. والقول بالأفضلية يرجع إلى اعتبارات عديدة، فإن كانت الأفضلية للزمان فنعم، لكن دفع الزكاة واجب، وليس هناك إذن مزيد أجر، لمن قام بالواجب في رمضان، على من قام به في شعبان.

وإن كان الإنسان أخر زكاته بعد تمام حولها، لينال فضل الزكاة في رمضان، فهذا فهم غريب للدين، يؤخر فيه الإنسان أداء الواجب عن وقته الشرعي المفروض، بحثا عن مزيد من الثواب.

وإن كان قدمها إلى رمضان، مراعاة لحوائج الفقراء في هذا الشهر، فقد أصاب السنة والأفضلية. إن الاستشهاد بالآيات والأحاديث، لا يكون بعزل النص عن سياقه العام، من أجل ذلك ينبغي أن نذكر ببعض الإشكالات، الناتجة عن جعل الناس رمضان موسماً مركزيا، يصرفون فيه زكواتهم وصدقاتهم، مع التذكير بضرورة تجديد فقه الزكاة في المجتمع الحديث، الذي كثرت فيه النوازل والمتغيرات، وذلك يدعو إلى مراعاة المقاصد الشرعية، بربط العمل بالجدوى والنية بالنتيجة، ولابد من فهم أفضلية المكان أو الزمان، من خلال ربطها بحاجة الإنسان، فإذا كان الفقير أحوج إلى المال في شهر صفر، منه إليه في رمضان، فالإنفاق في صفر هو الواجب، وليس الأولى فحسب.

إن للفقراء حوائج موسمية، صارت مرتبطة بالتقويم الشمسي، فالأسرة الفقيرة -في بداية الموسم الدراسي-، بحاجة إلى مصروفات، تعين على تعليم البنين والبنات، وفي الشتاء بحاجة إلى أكسية وأغطية، تقي من البرد القارس،، وكثير من الفقراء لا يجيدون الادخار، فيبددون ما يصل إلي أيديهم في رمضان، فلا يحل صفر إلا وقد صفرت أيديهم.

والأسر أيضاً بحاجة إلى كراء المساكن، وتسديد فواتير الكهرباء ونحوها وغيرها، وهذه الأمور مؤقتة بالتقويم الشمسي أو القمري، ولابد من مراعاة هذا و ذاك، إن نمط الحياة الاجتماعية المستقرة، صار يدعو إلى طرح أسئلة جديدة: أليس من الأفضل أن يوقت المزكي ميعاد زكاته على هذه الأوقات؟، أم أننا سنظل نفهم أحاديث الفضائل، دون ربط لها بالصورة العامة لاحتياج الناس؟ ودون مراعاة مبادئ الاقتصاد، الذي يربط الوسائل بالغايات، والأفضلية بالاحتياجات، في أي وقت من الأوقات.

5-من ثقافة الشحاذة إلى ثقافة الكرامة:

كثير من دافعي الصدقة والزكاة، يقطرونها في أفواه الفقراء تقطيراً، وكأنها ناقوط القربة، أو أنابيب التغذية في غرف الإنعاش، فلا تكاد تسد رمقا، ولا ترفع عاطلا من حفرة العطالة، ولا تشفي مريضاً يحتاج إلى ما يشتري به الدواء، ولا تمكن طالباً فقيراً من الاستمرار في علم ضروري.

ليس الهدف من الزكاة في الإسلام، إعطاء الفقير درهما أو درهمين، إنما الهدف تحقيق مستوى لائق للإنسان، بوصفه إنسانا مكرماً، مستوى لائق بوصفه مسلما، ينتسب إلى دين يؤكد العدل والإحسان (القرضاوي: الزكاة: 575).

بل إن طريقة إخراج الزكوات والصدقات، أحيانا تنمي روح (الشحاذة) في الفقير، إذ إن بعض الناس يبخل سائر العام، ثم يتدفق في رمضان دون حساب، فتتحول فئة من الناس إلى أيد مبسوطة، وعيون ممدودة، وأفواه مفتوحة. تعتاد الكسل وكراهية العمل، واستمرار الاستجداء، وتتقن (ثقافة الشحاذة) ومالها من آليات، وإدعاء آفات وعاهات.

والمتصدق عندما يعطي الذين لم يتأكد من صدقهم، يفهم أحاديث رد السائل على غير وجهها، ويسهم في صناعة روح العطالة (أي الكسب الطفيلي)، في المحتاجين وغير المحتاجين، وصناعة روح السادية في المعطين.

بل إن بعض المعطين من الأثرياء، يرتاح لاصطفاف الناس، حول مكتبه أوداره في رمضان، حين يتوافدون أفراداً وجماعات، يسلمون على (العم) ويقبلون رأسه، وقد طأطأوا هاماتهم، وعلتهم الذلة والمسكنة، وكأنهم في احتفال جنائزي، وكأن هذا العم يعطي من ماله، بينما هو يعطيهم حقا من حقوقهم، لا تجوز المنة به ولا الأذى، فهذا المال ليس له (في معايير الشريعة الإسلامية)، بل هو مال لله، فالله هو مالكه الحقيقي، قد أمر ببذله للمستحقين، فقال: “وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم”،فكأن الإنسان وكيل على هذا المال مستخلف،كما قال الله تعالى “وأنفقوا من ما جعلكم مستخلفين فيه”. وحدد الله أيضا مجال صرفه، ليربي الناس على التكافل والتراحم، دون فوقية ولا أنانية.

وهذه الفئة من الشحاذين المتبطلين المتسولين، الذين احترفوا سؤال الناس، ليست هي فئة المساكين التي يظن كثير من الناس، أنها تستحق شيئاً من مال الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرأوا إن شئتم: “ولا يسألون الناس إلحافا” (البقرة: 273).

ولو كانت الزكاة والصدقة تجوز للعاطلين، لجازت للزهاد المترهبين، فقد ذكر الفقهاء، أن الزكاة لا تجوز لمن يتفرغ للعبادة (الرهبانية)، لأن مصلحة عبادته قاصرة عليه (انظر الروضة للنووي: 2/309).

فالمتفرغ للعبادة (الرهبانية) لا يجوز أن يعطى بأي وجه من الوجوه، وهذا ما وجه به عمر بن الخطاب، أناساً جلسوا يتعبدون في المسجد بعد صلاة الجمعة، فسألهم كيف ترزقون؟ فقالوا: إنهم يعتمدون على صدقات أهليهم، فقال لهم: إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ألم تسمعوا قول الله تعالى: “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله”.

ومن ذلك يتضح كما يقول القرضاوي، ضلال الكثيرين، من من ظنوا الزكاة صدقة تعطى لكل سائل، وتوزع على كل مستجد (فقه الزكاة: 898).

إن كثيراً من الناس يتصورون الزكاة، على أنها صدقة للمتسولين، ومعونة للمتبطلين القاعدين، ولابد من تصحيح المفاهيم والقيم، من أجل، بناء أنظمة اقتصادية واجتماعية، تقوم على العمل والإنتاج.

في حالات غير قليلة؛ يسهم سوء توزيع الصدقات والتبرعات، في إنتاج فئات من الشخصيات المشوهة، التي تجد الاستجداء أهون وأضمن، فترسخ فيها الطفيلية، كالنباتات التي تتسلق على الحيطان، تتعود على ثقافة الاستجداء، ومفرداتها من الخنوع والنفاق، والعطالة الظاهرة والمقنعة، فيفقد الشحاذ معنى الإنسانية، ولذلك لا ينبغي إعطاء السائل دون تقدير أثر ذلك على سلوكه، لكي لا تحطم فيه قيم المروءة والكرامة، كما قال سعد البواردي:

كل من أعطاه قرشا حطم الإنسان فيه

6-إقراض الفقير شبكة خير من منحه سمكة:

نعم للناس حوائج آنية، وضرورات استهلاكية ذات أولوية ينبغي مراعاتها، ولكن مشاريع الزكاة والصدقة، ينبغي أن ينظر إليها على أنها أسلوب أمثل للنهوض بالفرد والجماعة من حفر الفقر، ولابد إذن من اعتماد قاعدة (الإنتاجية)، بتأهيل الفقير حتى يستغني، بعونه علي اكتساب عمل شريف، وهذا يتطلب أن يتخفف المزكي، من نظام توزيع زكاته، على شكل (قطرات)، تنقط في الحلوق، أو شكل حفنة توضع في الكف حبيبات، ولا تكاد تخرج الفقير من فقره.

إن المزكي لو نظر كل عام في حالة فقير، أو جمع زكاته مع زكاة أخيه أو مع أصحابه، ثم اشتروا بها آلة صنعة لعاطل، أو بنوا بها بيتاً لذي عاهة مستديمة، أو اشتروا بها مكائن خياطة ليتيمات، أو فتحوا بها دكاناً لعاطل، لكان هذا الأسلوب أجدى من قطرات الماء، التي تقطر في حلق الفقير، وتوقعه في براثن شركات التقسيط، التي تقمع رأسه كلما حاول رفعه، فكلما خرج من حفرة، تدحرج مرة أخرى إلى الحضيض.

ويغفل كثير من الناس عن أن الأجدى للمتصدق. أن يعلم الفقير مهنة صيد السمك، بدلاً من أن يتصدق عليه بسمكة، هذه الخطة في أداء الصدقة أو الزكاة، جاء بها الإسلام، بل جاء بما هو أكمل، كما في حديث أنس بن مالك، الذي أخرجه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة، أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال الرسول له: أما في بيتك شيء؟ قال الأنصاري: بلى حسك (بساط) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وكعب (إناء) نشرب فيه الماء، قال الرسول: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما الرسول وقال : من يشتري هذين؟ قال سهل (أحد الصحابة) أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فباعهما، وأعطى الأنصاري الدرهمين، وقال: اشتر بأحدهما طعاما، وائت إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به ففعل الأنصاري ما أمره به النبي، وعاد ومعه قدوماً، فشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً، وجعله ساعدا لقبضة القدوم، ثم قال اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاما، فقال الرسول : “هذا خير لك من أن تجيء بنكتة في وجهك يوم القيامة”.

هذا هو الأسلوب الأمثل، لكي يساعد الموسر أخاه الفقير، على اكتساب عمل شريف، فصنعة في اليد هي الأمان من الفقر.

ومن أجل ذلك فإن الأولى أن يقسم الفقراء إلى قسمين: الفقير الكسوب بذهنه أو بدنه والفقير العاجز بذهنه وبدنه معاً، فالكسوب يستطيع أن يمارس حرفة يدوية، أو يمارس عملاً تجارياً أو يديره. فيعطي المحترف ثمن آلة، وإن كثرت، ويعطي القادر على الكسب رأس مال يساعده على البداية بعمل ذي ريع، فيضمن له اكتساب العيش، أما الفقير الذي يخشى عليه من تبديد المال، أو الذي لا يستطيع أن يعمل، فيعطى كفايته مع كفاية عائلته سنة (مطالب ألى النهى: 2/136) ولذلك استحسن القرضاوي، أن يعطى الفقير العاجز راتب شهرياً من الزكاة (فقه الزكاة: 571).

7 -مجالات جديدة للزكاة والصدقات :

مع ظهور الدولة الشمولية الحديثة، في العالم الإسلامي، ينبغي إعادة تركيب الجزئيات، في مجال الأوقاف والصدقات والزكواة، ليقوم المجتمع الأهلي بتكميل ما ينبغي تكميلة، في سياق التكامل بين دور الدولة ودور المجتمع الأهلي، مع إعمال قواعد مقاصد الشريعة، كالتوازن والتكامل والأولوية.

في هذا العصر تعطلت مجالات منافع كثيرة، وظهرت مجالات منافع جديدة مهمة، وتجاوزت حركة التغيير في الحياة الاجتماعية، كثيراً من آراء العلماء الأمويين والعباسيين واجتهاداتهم، وأصبح من الضروري العودة إلى (نور) القرآن الكريم والحديث الشريف، وفهمها من خلال (مشكاة) حياة فترة الراشدين، ولابد من نصب هذا الميزان، ومعرفة الواقع معرفة صحيحة، من الجوانب كافة، لإعادة بناء جزئيات هذا النظام المالي المهم، الذي يتناول كفالة المجتمع الأهلي، لما تتركه الدول من مجالات، حسب غناها وفقرها وحسب قيامها بواجباتها، في الضمان الاجتماعي.

وهنا إذن يستطيع المحسن الواعي، أن يرتب الأولويات في أموره، بل وفي الأمور التي أوصى بها الأجداد الأحفاد، فهل من الضروري حفر بئر إذا كانت الدولة في هذه الناحية أو الإقليم قد حفرت بئراً؟ وهل الأولى بهذا المال ذلك الفقير المنقطع لحفظ القرآن الكريم في مجتمع كثر فيه الحفظة الرواة المتفيقهون،وقل الوعاة العاملون، وكثر خريجو العلوم الإنسانية وقل خريجو العلوم الطبيعية، كالأطباء والمهندسين; وهل هذه المدرسة المنشأة الدينية أولى بهذا المال، أم هذه الجريدة، أو هذه القناة الإعلامية؟ وهل بناء هذا المسجد في هذا الحي أولى؟ أم أن حاجة أهل الحي إلى طريق يفتح أو يسفلت أولى؟ وهل معني قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”; أن لا نوازن بين تعليم القرآن والتقنية والصناعة معاً، في نسق واحد؟.

وهل معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم “من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة” يعني أن بناء المسجد على الإطلاق، أولى من بناء المدارس والمصانع والمشافي على الإطلاق؟ أم أنه قضية الأجر مرتبطة بوظيفة هذا المسجد أو المشفى، في إطار الوحدة العضوية للشريعة؟ وهل يستبعد من العلم الذي يقرب إلى الله; تعليم الصناعات والزراعات والمهن والحرف، التي يرفع بها الله المسلمين، ويعزهم من الذلة والاستغلال.

وإذا أوصى الميت بأضاحي كثيرة، لا يجد الوكيل من يأكلها من الفقراء، فهل من الوعي الديني أن يظل الموتى يحددون مآل مال الله، الذي آتاهم في حياتهم، ولو تغيرت الأحوال بعد وفياتهم؟ وهل من الوعي الديني أن تتعطل المنافع تعطلا كاملا، لكي يقال لمن تورط في وقف تعطلت منافعه، كيف يخرج من ورطته؟.

ومن ذلك توجيه صرف الزكاة للمتفوقين، في الدراسات التقنية والمهنية والتطبيقية، وقد نص العلماء القدامى، على أن الذي يتفرغ لدراسة علم نافع للأمة، يجب أن يعطي من الزكاة، أي أن الذي يعطى من الزكاة نوعان: من يحتاج من المسلمين، أو من يحتاج إليه المسلمون، واشترط بعضهم أن يكون الدارس نجيباً يرجى تفوقه، وهو قول كما ذكر القرضاوي وجيه يجسد كليات الشريعة، يشبه ما تسير عليه الدول الحديثة، التي تنفق على النجباء والموهوبين (فقه الزكاة 561).

8 -لماذا نضرب النصوص الكلية بالجزئية؟:

ولماذا هذه الحركة الدائبة، لنشر الأحاديث الدينية التي تحث على تعليم القرآن الكريم ونوافل الحج والعمرة ونحوها؟ هل هؤلاء الذين يركزون على هذه العبادات الخاصة، يعتقدون أنها أولى من غيرها على الإطلاق؟ أم يعتقدون أن الناس قاموا بالفرائض الاجتماعية والعمرانية، وأهملوا النوافل الروحية؟، أم أنهم لم يسألوا أنفسهم هذه الأسئلة؟أولا يدركون أن الأمة لن تستعيد حريتها، إلا بالتركيز على الاستثمار في مجالات العلوم؟ هل هناك فراغ نصي شرعي في النصوص التي تؤكد أهمية الإبداع التقني والاقتصادي ونحوه، أم هو ركض عاطفي غير متوازن.

و لو افترضنا وجود فراغ في النصوص التفصيلية، ألا تكفي النصوص المجملة، التي توجب مراعاة المصالح الكلية، ومن المطلوب إذا من المثقف الديني سواء كان عالماً أو متعلماً، أن ينهض بدوره، في إيقاظ أمته، وذلك يتطلب منه مراجعة عميقه لثقافته، قبل أن يتصدى لتعليم الناس، فـ(تصفية) الثقافة، مسألة ذات أولوية، قبل التصدي لـ(التربية). ومسألة إدراك (مفاهيم) الشريعة تسبق التصدي للـ(التعليم). وهذان المبدآن يشيران إلى أهمية أمرين:

1- إبراز النصوص الإسلامية بشكل متوازن، من حيث التكرار، لان لأن تكرار النص الجزئي يكسبه رسوخا مع الزمن قد ينسى ما هو أهم منه أو يهمشه ، ولابد من ضبط معدل التكرار حسب الحاجة.

أي أن يدرك الواعظ والخطيب، ضرورة ترك شحن الناس، بأمور ثانوية، على حساب أمور أساسية.

2- ملء منطقة الفراغ النصي التفصيلي، بالأدلة الأخرى من النصوص العامة، والتطبيقات الراشدية، والإجماع الصحابي والقياس والمصالح المرسلة، فالعلاقة بين (نور) الكتاب والسنة و(مشكاة) التطبيق النبوي، تكفي لإدراك سنن إقامة المجتمع النموذجي، وبذلك تكون كتب الثقافة الدينية العامة التي تقرأ في المجالس والمساجد، شاملة مجالي الدنيا والآخرة، في مجال العبادة الخاصة كالصلاة، وفي مجال العبادة العامة كالاقتصاد والعمران، وفي المجال الفردي والاجتماعي معا.

9-أفلا ننشئ مؤسسات للصدقات الجاريات؟ :

ألم يأن لأهل الخير، أن يدركوا أهمية العمل المؤسساتي، في إدارة الأعمال الخيرية؟ مهما كان له من النقائص، فإن محاسنه أكثر، وأخطاءه تقل عبر الزمن، ومع التجريب والمحاولة ينجح المسعى، فجهود الجماعة الواعية، أفضل عشرات المرات، من جهود الأفراد الواعين، فضلا عن غير الواعين، لقد سبقت أمم الغرب إلى كثير من هذه الطرائق، وحققت ما أذلتنا به، من نجاح عمراني ومدني.وأبسط مثال لها أنها استفادت من نظام الوقف الإسلامي، فأنشأت نظام الجمعيات التعاونية، ولابد للعمل الخيري الإسلامي من أن يكثر ويرسخ هذه الطرائق، ولذلك مبررات:

أ- العمل المؤسساتي أوعى بالأولويات و الموازنات، من الأفراد الذين يتلقفون الفتاوى، التي تناسب أهواءهم أو قصر نظر المفتين، أو هما معاً، فقد تكون الفتاوى التي يعتمدون عليها حديثة واعية أحيانا نادرة، وقد تكون عباسية قديمة كتبت لمناخ عباسي،وقد تكون لفقيه مقلد لم تنبثق من رؤية واعية للشريعة، تستوعب المتغيرات، وتقدم حلولاً عملية لها.

ب- والهيئات أقدر علي رؤية أولويات الحاجات، إذ ستقدم الحاجات الأساسية علي الفرعية، لبلد أو مجتمع أو دولة.

ت- ولابد من إنشاء آليات مناسبة، لكي تصبح الصدقة والزكاة جارية، بإقامة المنشآت العملاقة، كالمصانع والمزراع والمساكن، التي تدر دخلا يضمن استمرارها.

ث- ويمكن توسيع مفهوم الإحسان وترابطه وتدرجه، فإعفاء المعسر من سداد دينه، يعتبر زكاة عليه، وإعفاء المستقرض العاجز عن سداد ما استقرض،يعتبر زكاة عليه أيضاً، لأن الأخذ بهذا الرأي، يشجع الناس على التكافل وإقراض المعسرين، ويجنبهم المراباة، ويشجع الأغنياء على ترك التهيب من إقراض الفقراء أو مبايعتهم.

ولا جرم أن القول بجواز إسقاط الدين عن المعسر من الزكاة،هو الأولى بناء على تضافر النصوص، وبناء على النتائج العملية أيضا، فهو إذن مقتضى مقاصد الشريعة وقد نقل الجواز النووي عن الحسن البصري وعطاء، وكما قال بذلك ابن حزم أيضاً، مستدلاً بحديث أبي سعيد الخدري، في صحيح مسلم “أصيب رجل على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال صلى الله عليه وسلم لدائنيه “تصدقوا عليه” (انظر المحلى 6/105-106)، ويدل على ذلك قوله تعالى “وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون” (البقرة : 280) ورجح ذلك القرضاوي (الزكاة: 849)،وقد حصر الحسن البصري اعتبار التنازل عن الدين زكاة بالقرض، لا بديون التجار، ولكن لا دليل على هذا التقييد.

10-تفطير الصائم وبضعة أسئلة :

إذا جاء رمضان وجدت إعلانات ولافتات، في الصحف والطرقات، عن إفطار الصائمين وما فيه من الأجر العظيم، اعتماداً على حديث الحث على التفطير “من فطر صائما فله مثل أجره” ونحن لا نجادل في صحة الحديث، إنما نجادل في صحة التأويل، ثم في صحة التطبيق. وميزاننا لهذا الأمر واحد، هو كليات الشريعة ومقاصدها،لمعرفة مناط التكليف، من خلال فهم الشريعة، باعتبارها نسقا متكاملا، يفسر بعضه بعضا، وفضل كل جزء فيه بحسب وظيفته، وذلك يدعو إلى الربط بين الجهد والجدوى، وذلك يعني تفريع الجزئيات على الكليات، لأن النصوص الجزئية تدور حول قطب النصوص الكلية، ومراعاة توصيل الأعمال إلىالأهداف.

فإفطار الصائم جزء من وحدة التكافل بين المسلمين، وهذا الصائم الذي يُنال الأجر بتفطيره، إنسان له صفات خاصة، كأن يكون فقيراً يسد جوعه، أو ضعيفاً أو مريضاً منقطعاً تؤلف عاطفته أو مسافرا لا زاد معه، وليست المسألة إذن إطعام أي إنسان، وإن كان ثريا غنيا، وهذا الإفطار ينبغي أن يكون دون إسراف.

فإذا مددنا الطرف، رأينا موائد كباراً، موضوعة علي الأسمطة، في باحات المساجد، فيها أطعمة متنوعة، يأكل منها أناس مختلفون، فيهم الفقير ذو الجسد الضامر، الذي نحل من الجوع والبؤس، والضخم البدين الذي لا يكاد يدخل الباب، إلا بمشقة

فهل تطبيق نظام الأولويات والموازنات، يجعل لذلك أولية؟، ومفهوم الحديث أدق من منطوقه، فالناس يهتمون بإفطار الصائم، ويقصرون الحديث عليه، وليس الفطور بأولى من السحور، ولا يصح التفريق بين متماثلين إلا بدليل، وهل يحصر إفطار الصائم بمثل هذا الخوان المبسوط في المسجد؟ وهل ينال الأجر بتفطير الأقوياء المكتسبين؟ وهل الأجر محصور بتقديم الطعام؟، أو ليس الأولى دفع المال مباشرة للمحتاج، ليفطر مع أهل بيته؟.

ووضع هذه الموائد في المساجد; مسألة أخرى مشكلة، لا نريد أن نذمها بمصطلحات البدعة ونحوها، ولكنها لو كانت أولى لفعلها الصحابة الكرام، فتحويل ساحة المسجد إلى مطعم مسألة فيها نظر، لأن المساجد أمكنة عبادة روحية اجتماعية، ينبغي أن يكون هواءها صحيا، وأن تكون فرشها نظيفة، وقد قال الله لنا:“خذوا زينتكم عند كل مسجد”، وندب المسلم -ولاسيما إذا كانت حرفته يدوية- إلى الاغتسال قبل صلاة الجمعة، من أجل تحقيق هذه النظافة. والناس يضيقون بالروائح الكريهة، من الدهان والسباك والمدخن، فما بالك بروائح اللحوم والدهون، والتوابل وقتار الخبز، وهي تنبعث من ساحة المسجد. إن الحياة المدنية الحديثة، إن باحات المساجد ليست مطاعم، وهناك أساليب عديدة، لتفطير الصائمين في المطاعم أو في البيوت.

ومثل ذلك (عشاء الوالدين)، الذي توارثه الأحفاد عن الأجداد، في العصور السوالف، وأصبح عادة متبعة، في كل رمضان، توحي بنشوء بدعة سائدة، لأن استحسان عمل من المندوبات الشرعية، وربطه بزمن أو بمكان لم يرد في الشريعة، أمر يخرج عن البدعة الحسنة، إلى البدعة السيئة، ولو كان هذا العشاء مشروعاً، لما فات الصحابة ولا التابعين، تري أليس باب الصدقة عن الوالدين مفتوح الأوقات والمجالات؟، وفي الحياة المعاصرة عشرات الأنماط، التي يمكن أن يسلكها المتصدق عن نفسه أو عن والديه.

نحن المسلمين نملك طاقات كبيرة من الرغبة في الخير، وأرقاما هائلة من المال، ولكننا نسئ توظيفها، والأدهى من إساءة التوظيف، أن نبرره تبريراً دينيا، فنعتبره، بحثا عن الدار الآخرة، فنضيع كثيراً من الطاقات هدراً، كالماء الذي يساق إلى نقر الرمال، فلا هو بقي في جوف الأرض مخزوناً مكنوزا، لمن يحسن استثماره، ولا هو أنتج ثمرا بقدر ما أنفق فيه من جهد مالي أو بدني.

ولا غرابة، إذا سبقتنا اليابان إلى التفوق المادي والمدني، علي الرغم من أنها تعرفت علي الحضارة الغربية بعد مصر، بل إن موفديها قصدوا مصر للتعلم في بداية عهدهم بالنهوض، ولا ينبغي أن نتعجب إذا مضي القوم سراعى محلقين في السديم، وبقينا نتراجع القهقرى، لأننا حولنا بواعث النهضة والتفوق والنجاح في الدين، إلى مضخات تنتج الهمود والخمود، ونسبنا كل ذلك أيضاً إلى الدين، فصار الدين شماعة، للنكوص والخمول والقعود، والجهل بوسائل حفظ الأمة والملة.

إن هذه التقنيات المادية والمعنوية كالقنوات الفضائية التي تغزونا اليوم، تعلن سقوط نظامنا التربوي، الذي قدمناه وحافظنا عليه باسم الدين، وفي كثير من ممارساتنا للعبادة الروحية، نترك العبادة الفاعلة. إلى العبادة الخاملة، فتكون العبادة في ظاهرها صحيحة، ولكن صحتها مسألة شكلية، لأنها وقفت عند مستوى الطقوس، فهي عبادة ولكنها عبادة قاصرة ضعيفة، تنتج أفراداً وجماعات، هزيلة في كل مستوى.

11-مفهومنا الإحسان مفهوم متخلف:

وأخيرا فإن لدينا تخلفا ثقافيا واجتماعيا، في مفهوم الإحسان والمعروف، فهناك بشر غير قليل يفهم الإحسان، على أنه تكرم وتفضل، بل ربما خطر في بالنا، أن المعطي صاحب يد بيضاء عليا، وأن الآخذ صاحب يد سوداء دنيا، وربما بررنا هذا الشعور بالحديث الشريف “اليد العليا خير من اليد السفلى”.

وهذا الحديث ليس تقييما دينيا للمعطين بأنهم متفضلون، وليس خطابا موجها للمعطين، يمنحهم الدرجة الفضلى، بل هو للسائلين لكي يحثهم على مفارقة الحالة الدنيا، وهي حالة المستهلكين، لكي يرتفعوا إلى مستوى المعطين المنتجين، ولكنه ليس حكماً عليهم بالدونية، إذا كانوا عاجزين عن العمل، أو كانوا بحاجة إلى رأس مال; يبتدئون به حياتهم المهنية، أو كانوا متفرغين لعمل نظري أو تطبيقي تحتاج إليه الأمة.

وفهم الإحسان على أنه تكرم وتفضل ومعروف، إفراز من ثقافة التخلف، يجسد الأنانية والجشع، والأثرة والروح الفردية. حين يصبح الإحسان غلا في عنق المستعطي، يستثمره المعطي المنتفخ بالكبرياء والرياء، ليبنى به سمعة أو جاها، أو ليصبح قلائد منة واستعباد.هذا المفهوم الشائع مفردة من مفردات الثقافة المتخلفة، التي بلورها الشاعر بقوله:

أحسن إلى الناس (تستعبد) قلوبهم

فطالما (استعبد) الإنسان إحسان

أي إحسان هذا وهو يفضي إلى الاستعباد؟

إن صاحب الإحسان الحقيق هو الله ، والإنسان إذا تصدق أو زكى، إنما يزكي نفسه ويتصدق عليها، فالإحسان إذن هو القيام “بالواجب الطبيعي للإنسان وكما أحسن الله على الإنسان بنعمه، عليه أن يحسن بهذه النعم إلى الخلق” (طبارة: روح الدين: 202)

ومن أجل ذلك فإن الإحسان لم يتشكل بالصورة الدونية، إلا عندما فقدت الثقافة الإسلامية صفاءها،عندما فشا اختلال القيم الدينية، فانطمرت الحقوق الشرعية الطبيعية، حتى صار بذل المعروف صنيعة تصطنع في أعناق الرجال، ويطالبون بثمنها المعنوي أو المادي طوال الدهر، وحتى صار أداء الواجب تفضلا من مؤديه، يستوجب من الآخرين أن يشكروه عليه، وصار الشكر دينا في عنق من يعطى حقه، وحتى صار أداء الأمانة منة، تستوجب التملق والشحاذة والمديح.

مع أن القضية في الدين، أخذ حق ودفع واجب، فليست مجال تفضل أو تكرم، وما دام المال الذي بين أيدينا لمالك غني، فعلينا أن نطيعه في ما أمر، وليس لنا إلا فضل التذرع بالطاعة، فهو الذي أمرنا فقال: “وأنفقوا من مال الله الذي آتاكم”، وإنما أعطانا ليختبرنا، فليس لنا في المال إلا الاستخلاف، ولذلك قال: “جعلكم مستخلفين فيه” ليختبر حسن تصرفكم.

وهذا معنى قوله تعالى: “وأحسن كما أحسن الله إليك”، فإذا قضى الإنسان دينه، فعلام يعد نفسه متفضلاً، والإنسان إذا أقرض لا يقرض أخاه، وإنما يقرض الله، فقد وصف الله عباده الطيبين بأنهم “أقرضوا الله قرضا حسنا”.

وإذا أدى المعطي ما يجب عليه، فليس إذن بأجدر بالشكر من الآخذ، فإذا كان المعطي يريد بالإعطاء أداء الحقوق، وإذا كان الآخذ يريد بالأخذ القيام بالواجبات، فما فضل المعطي على الآخذ؟.

12 -المفهوم الإسلامي للإحسان

ولذلك فإن المعنى الإسلامي للإحسان معنى (إنساني) أي أن الآخذ ليس أقل إحسانا من المعطي، بل إن الفقير أو المحتاج المستقرض والمستعين والمستدين، لأنه أتاح لإخوانه الفرصة الذهبية، لكي ينقوا أنفسهم من أدران الحرص والشح، والأنانية والأثرة . ولذلك قال الله تعالى “إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم”.

وكما قال القرضاوي وفقنا الله وإياه “فالزكاة حق للفقراء في أموال الأغنياء، وهو حق قرره مالك المال الحقيقي وهو الله، فليس فيها من معاني التفضل من الغني على الفقير... إذ لامنة لأمين الصندوق، إذا أمره صاحب المال، بصرف جزء من ماله على عياله”، فالزكاة ضريبة تؤخذ، وليست تبرعاً يمنح، هذا الحق لم يوكل لضمائر الأفراد وحدها، وإنما حملت الدولة المسلمة مسئولية جبايته بالعدل وتوزيعه بالحق (الزكاة: 86) ولذلك فإن مالك المال الحقيق، حدد مصاريف الزكاة، لكي لا تكون خاضعة للأهواء والآراء الشخصية.

الزكاة في الإسلام أول تشريع منظم، للضمان الاجتماعي، الذي لا يعتمد على الصدقات الطوعية المتقطعة، وليست من باب الإحسان والتكرم، بل هي ضريبة إلزامية، تؤخذ من الفرد الذي منعها قهرا، وتقاتل الجماعة التي تمنعها، وهي ثابتة المقادير، تقوم عليها الدولة المسلمة جباية وصرفاً، وتأخذها من الأغنياء، وتردها إلى الفقراء. فهي حق معلوم كل عام، وقد سبق الإسلام في ذلك الدول الحديثة، التي لم تشرع الضمان الاجتماعي، إلا في القرن العشرين منذ سنة 1941م (الزكاة: 880- 883).

في المفهوم الإسلامي للإحسان تتساوى يد المعطي ويد الآخذ، فكلاهما يد عليا، فيد الآخذ عليا إذا كان مستحقاً، ولا سيما إذا كان منتجا، كأن يكون دارسا في تخصص نادر،أو متفرغا في لبحث ذي شأن، أو عاملا يشتري آلة تكفيه مئونته، أو أم أيتام تسهر علي تعليمهم وتربيتهم، أو إنساناً أصابته عاهة، ففقد قدرته على العمل، أو مبدعاً في مجال نافع للأمة، فأيدي الجميع عليا، ولا فرق بينهم في الأجر إذا أحسنوا النية، إلا من حيث مدى الجهد.

لاشك في فضل الغني الشاكر، على الفقير الصابر، لأن فضل الغني الشاكر يتعدى إلى غيره، ولكن فضل الفقير الصابر لا يتعدى إلى غيره، هذا الفضل على الإطلاق، في مجال العمران والفاعلية الاجتماعية، إذا كان الصابر عاجزاً ضعيفا، ولكنه ليس على الإطلاق، إذا كان الفقير الصابر يقوم بدور علمي أو عملي فعال. لابد من النظر إلي دور كل منهما، في البناء والإنتاج أما في مجال الأجر عند الله، فالحساب يتم بميزان التعادل، مع المقارنة بين الطاقة الموهوبة والمكسوبة، والعمل المنجز، فالفضل لمن يحسن استثمار طاقته في نفع أمته، ولمن يحسن اكتشاف قدراته، لأن الناس يتخادمون، كما قال أبو العلاء:

الناس للناس من بدو وحاضرة×

×بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

وصدق الله العظيم "وجعلنا بعضكم لبعض سخريا".