7/9/1438هـ

أما بعد:

فيحكى في القصص الغابرة والأمثال السائرة ، أن الكلب أتى ملك الغابة فقال:

يا ملك الغابة ، غير لي اسمي، فإنه اسم قبيح فقال الأسد: نختبرك فإذا نجحت في الاختبار بدلنا لك الاسم، فخذ قطعة اللحم هذه وحافظ عليها إلى الغد ثم ائتني بها.

فوافق الكلب وانطلق باللحمة وهو يرى أن هذا امتحان سهل وأنه قد ضمن تغيير الاسم، فلما كان وقت الظهيرة واشتد به الجوع نظر إلى قطعة اللحم وقال: كلب، كلب ، وماذا في هذا الاسم؟ إنه اسم حسن ، ثم انقض على قطعة اللحم فالتهمها.

التميز غاية محمودة، وضالة منشودة

التميز.. مطلب تبحث عنه النفوس، وتسعى وراءه العقول، وتهوي إليه الأفئدة..

ولا يكاد يوجد إنسان على ظهر الأرض إلا وهو يبحث عن التميز والتفرد المطلق والشعور بالتفوق على الآخرين.

ولكنه طريق لا يقبل أن يسير فيه طلاب الراحة والسكون والخمول والدعة.

 وما نيل المطالب بالتمني .. .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

إنه طريق مليئ بالمتاعب والمشاق ، والجهد والسهر ، والتحمل والصبر ، والمواصلة والمثابرة حتى يصل صاحبه إلى الغاية ويسعد في النهاية.

لولا المشقة ساد الناس كلهم .. .. الجود يفقر والإقدام قتال

فالتميز إذن مطلب عظيم.. والمطالب العظيمة لا تتحقق غالبا بسهولة ويسر؟

وأي مطلب أغلى من دخول الجنة ، وفيه يقول الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}. وقال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(البقرة: 214)

ومع أن الإسلام يعطي أتباعه وسام التميز بمجرد اعتناقهم له:

- التميز في إفراد الله بالعبادة دون غيره، فلا دعاء ولاخضوع ولا إنابة ولا سجود ولا ذل إلا لله.

- التميز في الانضمام إلى خير أمة أخرجت للناس.

- التميز بشرف الاهتداء بالقرآن

- التميز بمنة الصلاة والاتصال بالرحمن

- التميز بفضل الله في صيام رمضان

- التميز بمضاعفة الأجر مع قلة العمل وقصر العمر

- التميز بالمواسم الفاضلة والأيام الشريفة والليالي الكريمة ( وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر).

ومع كل هذا التميز التلقائي لكل معتنق لهذا الدين إلا إن في داخله مساحةً كبرى للتميز بين أفراده ، ومنازلَ عُليا لا تصلح لكل أحد.

تلك المنازل التي عرفها أهل الصلة بالله وأهل القرآن وأهل الصلاة وأهل القيام وأهل الصيام وأهل البر وأهل الإحسان  وهلم جرا

أولئك الذين أثمرت معرفتهم بالله ويقينهم بوعده الصادق.. جِدّاً وعملا ؛ فكانوا كما قال الله: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون)

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ)

(إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)

{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

إنهم رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم، بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم، بل أحلى، وهممهم عند الثريا، بل أعلى.

عن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه - قال: صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة، فلم يزَل قائمًا حتى هَممتُ بأمر سوءٍ، قلنا: وما هَممت؟ قال: هَممت أن أقعُد وأذَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري

وقال ابن أبي مليكة : صحبت ابن عباس - يعني في السفر - فإذا نزل قام شطر الليل يرتل القرآن حرفا حرفا ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب .

وقيل لنافع : ما كان يصنع ابن عمر في منزله ؟ قال : لا تطيقونه ! الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما

وقال سعيد بن المسيَّب: "ما أذَّن مؤذِّن منذ عشرين سنة إلَّا وأنا في المسجد".

وإِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونَ المَرُّوزِيُّ أَحَدُ رِجَالاتِ الحَدِيثِ كَانَ يَعْمَلُ صَائِغًا، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ المِطْرَقَةَ فَسَمِعَ النِّدَاءَ وَضَعَهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا.

وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يصوم حتى يعود كالخلال - أي عود الأسنان - فقيل له: لو أجممت نفسك؟ فقال: هيهات إنما يسبق من الخيل المضمرة

وعن حماد بن سلمة قال: (ما أتينا سليمان التيمي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعًا، إن كان في ساعةِ صلاةٍ، وجدناه مصليًا، وإن لم تكن ساعة صلاة، وجدناه إما متوضئًا، أو عائدًا، أو مشيعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد، قال: فكنا نرى أنه لا يُحسن يعصي الله عز وجل).

 إن تلك النماذج لم تكن وليدة الصدفة والاجتهاد الشخصي ... ولكنها جاءت استفادة من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرشدنا لطلب التميز فقال :

«إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» . البخاري

وقد ظهر طلب التميز جلياً في الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - حيث قال: ((كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم (226)

فإياك إياك أن تكون همتك في التميز كهمة الكلب في تغيير اسمه فإن ذلك منهجُ خسيسِ الهمة , القنوعِ بأقل المنازل , الذي يختار عاجل الهوى على آجل الفضائل.

وما أعجب أمر من يوقن بأمرٍ ثم ينساه، ويتحقق ضرر حالٍ ثم يغشاه

" وتخشى الناس واللّه أحق أن تخشاه " .

فلا تُضيعوا لذة التميز والفوز من أجل لقمة.

ولا يفتكم فضل الله وثوابه من أجل نومة.

ولا تبيعوا جنة عرضها السموات والأرض من أجل شهوة.

      لا تحسَبِ المجدَ تمراً أنت آكلُهُ ...   

                          لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا

فهيا بنا في هذا الشهر نرتقي إلى ذُرى المجد وهام المعالي ... مفارقين منهج الذين فرّقوا دينهم لمّا فرّقتهم دنياهم فصاروا شِيَعاً وأحزاباً، لنلقى الذين ألّف الله بين قلوبهم حتى أصبحوا بنعمته إخواناً.