الأمير إبراهيم بن الأغلب التميمي


Image title
صوره تشبيهيه للأمير إبراهيم بن الأغلب التميمي



إبراهيم بن أحمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب أمير القيروان وآبن أمرائها ، ولي الإمرة سنة 

إحدى وستين ومائتين.هو سابع الأمراء الأغالبة في القيروان ، وقد اشتهر بسيرته الحسنة ، حيث كان عادلا حازماً في أموره، أمّن البلاد، وقتل أهل البغي والفساد، وكان يجلس في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين، يسمع شكوى الخصوم، ويصبر عليهم، وينصف بينهم، وكانت القوافل والتجار في عصره يسيرون في الطرق آمنين.

وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة..

وكانت مناسبة إمرته أن أخاه لما حضره الموت عقد لابنه "عقال " العهد واستخلف إبراهيم هذا بعده لئلا ينازعه، وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان، وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده، فلما مات أتى أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم، لحسن سيرته وعدله، فلم يفعل التزاما بعهد أخيه ، ثم أجاب، وانتقل إلى قصر الإمارة، وباشر الأمور، وقام بها قياماً مرضياً.

جهاده في صقلية :

واشتهر إبراهيم بجهاده وفتوحاته ، ومن بين تلك الفتوحات مدينة طبرين في صقلية ، التي سار إليها، فاستعد أهلها لقتاله، فلما وصل خرجوا إليه والتقوا به ، فقرأ القارئ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) قال اقرأ: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) فقرأ فقال: اللهم إني أختصم أنا والكفار إليك في هذا اليوم! وحمل ومعه أهل البصائر، فهزم الكفار، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، ودخلوا معهم المدينة عنوة، فركب بعض من بها من الروم مراكب فهربوا فيها.

والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم، فاستنزلوهم قهرا ، وغنموا أموالهم، وسبوا ذراريهم، ثم أمر بقتل المقاتلة، وبيع السبي والغنيمة.

ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه، وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج، وقال: لا يلبس التاج محزون. وتحركت الروم، وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين، فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية، فترك الملك لها عسكراً عظيما ، وسير جيشاً كثيراً إلى صقلية.

وفي كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار أنه قد وقف بنفسه يحرض المسلمين على القتال، ومس الفريقين ألم الجراح وهمَّ كل بالانحياز، فقرأ قارئ كان بين يدي إبراهيم " هذانِ خَصمانِ آخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ " إلى آخر الآية  ، فحمل حينئذ جملة العسكر وأهل البصائر منهم بنيات صادقة، فانهزم الكفرة وولوا هاربين وقتلهم المسلمون أبرح قتل، واقتفوا آثارهم في بطون الأودية ورؤوس الجبال، ودخل إبراهيم ومن معه طبرمين بلا عهد ولا عقد، فقتل وسبى والتجأ بعضهم إلى بعض القلاع.

ثم بث السرايا في مدن صقلية التي بيد الروم، وبعث سرية إلى ميقش، وسرية إلى دمنش، فوجدوا أهلها قد أجلوا عنها فغنموا ما وجدوا بها.

وبعث طائفة إلى رمطة، وطائفة إلى الياج، فأذعن القوم جميعاً إلى أداء الجزية.

كما بعث ابنه أبا العباس عبد الله على صقلية سنة سبع وثمانين فوصل إليها في مائة وستين مركبا وحصر طرابة ، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت ، وكانت بينهم فتنة فاغراه كل واحد منهم بالآخرين ، ثم اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم ، وبعث جماعة من وجوهها إلى أبيه وفر آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية وآخرون إلى طرميس فاتبعهم وعاث في نواحيها ، ثم حاصر أهل قطانية فامتنعا عليه فأعرض عن قتال المسلمين وتجهز سنة ثمان وثمانين للغزو ، فغزا مسينى ثم جاء في البحر إلى ربو ففتحها عنوة وشحن مراكبه بغنائمها ، ورجع إلى مسينى فهدم سورها وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ لهم ثلاثين مركبا ، ثم أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء الحبر ورجع إلى صقلية .

ثم بعث حفيده زيادة الله ابن ابنه أبى العباس عبد الله إلى قلعة بيقش فافتتحها وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية ثم عبر إلى عدوة البحر وسار في بر الفرنج ودخل قلورية عنوة فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة ثم رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك ثم سار إلى كنسة فحاصرها واستأمنوا إليه فلم يقبل ثم مات وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته ..

وكان من قبل قد فتح سرقوسة يوم الأربعاء لأربعة عشرة ليلة خلت لرمضان، وقتل فيها أكثر من أربعة آلاف ، وأصاب فيها من الغنائم ما لم يصل بمدينة من مدائن الشرك ، ولم ينج من رجالهم أحد. وكان مقام المسلمين بصقلية عليها على أن فتحت تسعة أشهر، وقاموا بعد فتحها شهرين، ثم تهدمت..

من مظاهره ورعه :

كان إبراهيم مشهورا بالورع الذي لا يتوفر لكثير من الحكام ، ومن مظاهر ذلك أنه عزم على الحج في إحدى سنوات إمارته ، فقام برد المظالم، وأظهر الزهد والنسك، وأثناء سيره غير  طريق الحج المعتاد إلى مكة والذي كان يسير عبر مصر ، وذلك كي لا يحدث احتكاك بينه وبين أميرها ابن طولون الذي كان على خصام معه ، فتجري بينهما حرب، فيقتل المسلمون ، وجعل طريقه إلى جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد معا ، ويفتح ما بقي من حصونها ، فأخرج جميع ما أذخره من المال والسلاح وغير ذلك، وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرو مرقع في زي الزهاد، وذلك سنة تسع وثمانين ومائتين، وسار منها في الأسطول إلى صقلية.

حبه لخصال الخير :

 كان إبراهيم كما ذُكر من قبل حسن السيرة، محباً لخير والإحسان، وقد تصدق بجميع ما يملك، ووقف أملاكه جميعها في نهاية حياته ..

ذكاؤه وحسن تصريفه لأمور الرعية :

 كان إبراهيم يتسم بالذكاء الفطري وله فطنة عظيمة بإظهار خفايا الماكرين، ومن صور ذلك أن تاجراً من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة، فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم، فأرسل إليها فلم تجبه، فاشتد غرامه بها ، وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه، وكانت أيضاً لها من الأمير منزلة، ومن والدته منزلة كبيرة، وهي موصوفة عندهم بالصلاح، يتبركون بها ، ويسألونها الدعاء، فقالت للوزير: أنا أتلطف بها ، وأجمع بينكما.

وراحت إلى بيت المرأة، فقرعت الباب وقالت: قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها؛ فخرجت المرأة ولقيتها فرحبت بها ، وأدخلتها وطهرت ثوبها ، وقامت العجوز تصلي، فعرضت المرأة عليها الطعام، فقالت: إني صائمة، ولا بد من التردد إليك؛ ثم صارت تغشاها ثم قالت لها: عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجها ، فإن خفت عليك إعارة حليك أجملها به فعلت.

فأحضرت المرأة جميع حليها وسلمته إياها فأخذته العجوز وغادرتها، وغابت أياما ، وجاءت إليها فقالت لها: أين الحلى؟ فقالت: هو عند الوزير، عبرت عليه وهو معي فأخذه مني، وقال : لا يسلمه إلا إليك، فتنازعت وخرجت العجوز، وجاء التاجر زوج المرأة، فأخبرته الخبر، فحضر دار الأمير إبراهيم وأخبره الخبر، فدخل الأمير إلى والدته، وسألها عن العجوز، فقالت: هي تدعو لك؛ فأمر بإحضارها ليتبرك بها فأحضرتها والدته، فلما رآها أكرمها وأقبل عليها وانبسط معها.

ثم إنه أخذ خاتماً من إصبعها وجعل يقلبه ويعبث به، ثم إنه أحضر خصياً له وقال له: انطلق إلى بيت العجوز، وقل لابنتها : تسلم الحق الذي فيه الحلي، وصفته كذا وكذا ، وهذا الخاتم علامة منها.

فمضى الخادم وأحضر الحق، فقال لعجوز: ما هذا؟ فلما رأت الحق سقط في يدها ،  وقتلها  ودفنها في الدار، وأعطى الحق لصاحبه، وأضاف إليه شيئاً آخر، وقال له: أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر، ولكن سأجعل له ذنباً آخذه به؛ فتركه مدة يسيرة، وجعل له جرماً آخذه به فقتله.

وقد ذُكر أن أمه تأثرت لها وصاحت لما كان يعرف عنها فقال لأمه :: لئن لم تسكني لألحقنك بها، تدخلين إلى قصري قواده!؟ وجاء الرجل للموعد، فأعطاه الحق وزاده من حلى أهله وقال: ما منعني من معاجلة الوزير إلا خوف شهرة أهلك. وأنا أفكر في هلاكه بوجه. ثم قتله بعد قليل.

ولم تكن تلك الحاثة الوحيدة التي تدل على حسن اهتمامه بالرعية ، وإنما ثمة حوادث أخرى ، منها ما ذكر عن أحد الرجال أنه قال: قدمت سجلماسة لألحق الرفقة إلى مصر، وكان معي ثلاثة آلاف دينار، فخرجت من القيروان مسرعاً حتى دخلت قابس. فلما سرت عنها فرسخاً لقيني سبعة فوراس، فأنزلوني، فأخذوا الخرج، وقتلوا الغلام، وأضجعوني للذبح، فتضرعت إليهم وقلت: غريب ولا أعرفكم فأطلبكم ، وقد أخذتم الذهب، وخلفي أطفال، فأطلقوني لله. وبكيت. فأطلقوني، فرجعت إلى قابس، فما عرفت بها أحداً. فذهبت إلى القيروان راجلاً عرياناً، فأتيت صديقاً لي، فأصلح شأني وقال: أعلم الأمير.

فقصدناه وهو جالس للناس، فقصصت عليه شأني، فتنمر، وأمرني بالجلوس. ثم رأيته يأمر وينهى. فلما قام أمر بعض الخدم فأدخلني القصر، وبعث إلي طعاماً، ثم نمت. ثم طلبني قبل العصر إلى روشنه، ودعا أمير الجيش فقال: هل وجهت إلى طرابلس بخيل؟ قال: نعم، سبعة فوارس وقد عادوا.

قال: فطلبهم وقال: من تعرف من هؤلاء فعرفني به؟ فقلت: هذا منه، إلى أن جمع السبعة.

فأخذهم بالرغبة والرهبة فأنكروا، ففرقوا في بيوت، وجيء بالسياط وضربوا مفرقين. ثم دار بنفسه عليهم، وبقي يقول للواحد: قد اعترف صاحبك بعد ما هلك، فلا تحوج نفسك إلى ما حل به. فأقروا وأحضروا الخرج والبغلة والثياب، لم تنقص سوى سبعة دنانير. فأتمها إبراهيم من ماله، وأعطاني غلاماً، وخفرني بناس إلى طرابلس. فلما عبرنا على الموضع الذي أخذت فيه وجدت السبعة فوارس على الخشب، والكلاب تأكل من أقدامهم.

وما ذُكر أيضا  إنه جيء إليه برجل، في يده سكين، وثيابه ملطخة بالدماء، فقال: ما لهذا؟ قالوا: أبونا لصلاة الصبح، فوجد في الطريق مذبوحاً، وهذا قائم عنده هكذا.

فقال: أقتلت؟ قال: نعم.

قال: اذهبوا به فاقتلوه.

وقال: إن اخترتم أن أؤدي عنه الدية، وأوليكم شيئاً فعلت.

قالوا: ما نريد إلا القصاص.

وراحوا به، فلما هموا بقتله برز رجل من الحلقة وقال: والله ما هذا قتله، وأنا قتلته.

فرجعوا به، فأقر عند الأمير، فقال لذلك: وما الذي ألجأك إلى الإقرار؟ قال: أصلح الله الأمير، عبرت فوجدت أبوهم يضطرب والسكين في نحره، فخطر لي أنني إن أزلت السكين من نحره ربما سلم. فأزلتها فمات والسكين في يدي، والدم على ثوبي، فرأيت الإقرار أولى من العذاب بالضرب والمثلة.

فقال الأمير: وهذا أيضاً إن أخذتم أخذ الدية وأن أوليكم فعلت.

قالوا: ما نريد إلا القود.

ثم راحوا ليقتلوه، فبدرهم من الحلقة وقال: والله ما قتله الأول ولا الثاني. وما قتله إلا أنا.

فردوا إلى الأمير، وزاد التعجب، فقال: لذلك: أقتلته؟ قال: لا والله.

قال: فما أحوجك إلى الإقرار؟ قال: إني كنت في شبابي مسرفاً على نفسي، وقد قتلت جماعة ثم تبت ورجعت إلى الله. وكنت في غرفة لي، فأخرجت رأسي فرأيت الشيخ قد اضجعه رجل وذبحه وهرب، فجاء ذلك وأنا أنظر، فأزال السكين، فأمسكوه، وأنا أعلم براءته، فلما قبل بالقتل سمحت نفسي بالقتل، عسى أن يغفر لي ما مضى.

فسأل الثالث فأقر، وأبدى أسباباً عرف بها أنه قاتله.

وقال: لما رأيت هذا وهو بريء قد فدى بنفسه ذاك الأول.

قلت: أنا أولى من أداء حق وجب علي.

فقال الأمير: إن اخترتم أخذتم الدية والولاية أيضاً.

قالوا: لا نفعل.

فلما ذهبوا ليقتلوه ودارت الحلقة قالوا: اللهم إنا عفونا عنه لا لما بذله الأمير من الدية والولاية، ولكن لوجهك خالصاً .

كرمه مع الرعية :

وقيل إنه ( أي إبراهيم ) خرج يوماً إلى نزهة، فقدم إليه رجل قصة وقال: إجلالك أيها الأمير منعني أن أذكر حاجتي. وإذا في القصة: إنني عشقت جارية وتيمني حبها، فقال مولاها: لا أبيعها بأقل من خمسين دينا. فنظرت في كل ما أملكه فإذا هو ثلاثين ديناراً. فإن رأى الأمير النظر في أمري.

فأطلق له مائة دينار.

فسمع به آخر، فتعرض له الآخر وقال: أعز الله الأمير، إني عاشق.

قال: فما الذي تجد؟ قال: حرارة ولهيباً.

قال: اغمره في الماء مرات حتى يمر ما بقلبه.

ففعلوا به ذلك فصاح، فقال: ما فعلت الحرارة؟ قال: ذهبت والله وصار مكانها برد.

فضحك وأمر له بثلاثين ديناراً.

تصديه للدولة العبيدية عند أول ظهور لها في المغرب العربي :

وقد ظهر في ايامه أبو عبد الله الشيعي، فنفذ لحربه ابنه الأحوال في اثني عشر ألفاً، فالتقى هو وأبو عبد الله، فهزمه أبو عبد الله، ثم جرت بينهما حروب. ثم هزم أبو عبد الله ووصل الأحوال إلى تاهرت فحرقها، وهدم قصر أبي عبد الله، وحرق مسيلة وساق ذرارية. ثم رد إلى إفريقية لما بلغه توجه أبيه إلى الجهاد.

حروبه مع العباس بن أحمد بن طولون :

كان العباس ابن طولون عاقا لوالده فطمع في الملك ، فلما أيس منه في مصر وخاف من بطش أبيه قصد إفريقية ، وكاتب وجوه البربر يستميلهم ، فأتاه بعضهم، وامتنع بعضهم، ثم كتب إلى إبراهيم بن الأغلب يقول: إن أمير المؤمنين قد قلدني أمر إفريقية وأعمالها؛ ورحل، حتى أتى حصن لبدة، ففتحه أهله له، فعاملهم أسوأ معاملة، ونهبهم، فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النفوسي، رئيس الإباضية هناك، فاستعانوا به، فغضب لذلك، وسار إلى العباس ليقاتله.

فلما علم بذلك إبراهيم بن الأغلب أرسل إلى عامل طرابلس جيشا يمده به ، وأمره بالإسراع لقتال العباس، فالتقى الطرفان ، واقتتلوا قتالاً شديداً قاتل العباس فيه بيده، فلما كان الغد وافاهم إلياس بن منصور الإباضي في اثني عشر ألفاً من الإباضية، فاجتمع هو وعامل طرابلس على قتال العباس، فقتل من أصحابه خلق كثير، وانهزم أقبح هزيمة، وكاد يؤسر، فخلصه مولى له، ونهبوا سواده وأكثر ما حمله من مصر، وعاد إلى برقة أقبح عود.

وشاع بمصر أن العباس انهزم، فاغتم والده حتى ظهر عليه، وسير إليه العساكر لما علم سلامته، فقاتلوه قتالاً صبر فيه الفريقان، فانهزم العباس ومن معه، وكثر القتلى في أصحابه، وأخذ العباس أسيراً، وحمل إلى أبيه ، وذلك سنة ثمان وستين ومائتين  .

حروبه مع الثائرين عليه :

كان أهل الزاب قد حضر وجوههم عنده، فأحسن إليهم، ووصلهم، وكساهم، وحملهم، ثم نكثوا عهدهم فقتل أكثرهم، حتى الأطفال، وحملهم على العجل إلى حفرة فألقاهم فيها.

كما سارت عليه سرية بصقلية مع رجل يعرف بأبي الثور، فلقيهم جيش الروم، فأصيب المسلمون كلهم غير سبعة نفر، فأرسل إليهم أميرا آخر فسار إلى مدينة قطانية فأهلك زرعها ثم رحل إلى أصحاب الشلندية فقاتلهم، فأصاب فيهم فأكثر القتل، ثم رحل إلى طبرمين فافسد زرعها ثم رحل فلقي عساكر الروم، فاقتتلوا فانهزم الروم، وقتل أكثرهم فكانت عدة القتلى ثلاثة آلاف قتيل، ووصلت رؤوسهم إلى بلرم.

شهادة المؤرخين له :

شهد المؤرخين لإبراهيم بحسن السيرة ومن هؤلاء الذهبي الذي اعتاد أن يترجم للملوك والأمراء في سطور معدودة ولكنه ترجم له فيما يقارب الصفحة ، ومما قاله عنه : كان عادلاً سائساً حازماً صارماً. كانت التجارة تسير من مصر إلى سبتة لا تعارض ولا تروع. ابتنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، بحيث كانت توقد النيران في ليلة واحدة من سبتة إلى الإسكندرية؛ حتى يقال: كان بأرض المغرب من بنائه وبناء آبائه ثلاثون ألف حصاناً، وهذا شيء لم يسمع بمثله لملك. وقد قصد سوسة وعمل لهم سواراً؛ وأقام في الملك بضعاً وعشرين سنة.

وقد دونت سيرته وأيامه وعدله وبذله وجوده، وكان مصدقاً للعدل وإنصاف الرعية، معتنياً بذلك.) .

وكان ملكا حازما صارما مهيبا، كانت التجار تسير في الامن من مصر

وفاته :

كان إبراهيم قد ابتدأ به المرض، وهو على الذرب مجاهدا، فنزلت العساكر على المدينة، فلم يجدوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم، فإنه نزل منفرداً لشدة مرضه، وامتنع منه النوم، وحدث به الفواق، وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين، فاجتمع أهل الري من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر، والأموال، والخزائن، إلى أن يصل إلى ابنه بإفريقية، وجعلوه ( الأمير إبراهيم ) في تابوت، وحملوه إلى إفريقية، ودفنوه بالقيروان، رحمه الله.  وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.

وقيل : إنه قبيل موته أرسل إلى ابنه يأمره بولاية ولده زيادة الله على صقلية، وأن يسير إليه، ففعل ، فلما قدم عليه ولاه إفريقية، وكتب له العهد، وأحضر قاضي عيسى بن مسكين، وكان من الصالحين، فاستشاره، فأمره برد المظالم، فكشفت الدواوين من يوم ولايته، وكل من كانت له مظلمة ردت عليه. وعزم على الحج على طريق الإسكندرية، ونودي بذلك ليجمع بين الحج والجهاد، وليفتح ما بقي بها من حصون. وخرج إلى سوسة بجيشه في أول سنة تسع وثمانين، فدخلها وعليه فرو مرقع في زي الزهاد، وأخرج المال، وأعطى الفارس عشرين ديناراً، والراجل عشرة دنانير. ووصلت سفن الأسطول طرابلس، واجتمعت العساكر وفيهم ولده أبو الليث، وولد ولده أبي مضر بن أبي العباس، وأخوه معد. وافتتح حصونها. ثم نزل على طبرمين وافتتحها عنوة. ثم لحقه زلق الأمعاء، وأخذه فواق، فمات رحمة الله في تاسع ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين. فرجع الجيش به إلى صقلية، فدفن بها في قبة. وقام بالأمر بعده أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن أحمد المتوفى سنة تسعين...

‫بطلنا الذي سنسرد سيرته هو إبراهيم بن الأغلب التميمي، مؤسس دولة الأغالبة، والتي قادت حركة الفتوحات الإسلامية في جزر البحر المتوسط، وبلغت سطوتهم مبلغًا كانت فيه كل الدول على ساحل إيطاليا تدفع لهم الجزية، عاشت دولة الأغالبة قرنًا وتسعة أعوام من سنة 184هـ/ 800م: 296هـ/ 909م، ازدهرت في ظلهم الحياة الاقتصادية والعمرانية في تونس، ولعبت مساجدهم في تونس دورًا كبيرًا في دعم الحضارة الإسلامية، وكان جامع الزيتونة جامعة إسلامية عظيمة، وانتهى حكمهم على يد الفاطميين سنة 296هـ/ 909م .‬

نشأته وصفاته :

هو إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي، تنتمي أسرته إلى قبيلة بني تميم العربية التي تتمركز في جزيرة العرب والحجاز والعراق ، كان والده الأغلب بن سالم من البارزين بين رجال الدعوة العباسية في مدينة مرو، انتقلت أسرة إبراهيم بن الأغلب إلى مصر، إذ يرد ذكر إبراهيم بن الأغلب بين الدارسين في حلقة العلامة الفقيه الليث بن سعد، فأخذ العلم عنه، اتصف بصفات شخصية جعلت منه زعيمًا مثاليًّا من زعماء الأمة الإسلامية، فيذكر المؤرخون أنه كان شابًّا ذكيًّا فصيحًا خطيبًا شاعرًا، ذا دين وفقه وحزم وشجاعة.

سيرته وإقامة دولته وضبط أمورها :

أبلى إبراهيم بن الأغلب بلاءً حسنًا في عودة الأمن والأمان في شمال إفريقية بالقضاء على ثورة تمام بن تميم التميمي بتونس على واليها بعد هرثمة بن أعين، وانتزع منه العاصمة القيروان في رمضان 183هـ : 799م، فسار إبراهيم بن الأغلب من الزاب الذي كان واليًا عليها قاصدًا القيروان، وأخرج تمام بن تميم التميمي، وأعاد واليها هرثمة بن أعين.

فكتب يحيى بن زياد صاحب البريد إلى الخليفة الرشيد بما فعله إبراهيم فعينه أميرًا على إفريقية بمشورة هرثمة بن أعين، لكفايته وإخلاصه في الطاعة وقبول الناس له، وتم ذلك في جمادى الثانية 184هـ/ 800م، واستمرت فترة حكمه إلى سنة 196هـ/ 812م فدخل إلى القيروان فبايعه أهلها، وانضم إليه خلق، فعظم أمره وأحبه أهل المغرب.

وقد حكم إفريقية في ظروف عسيرة ، فاعتمد إبراهيم بن الأغلب في توطيد حكمه واستقراره على قاعدة التدرج في الأعمال التي تحقق الهدف، فكان أول ما فعله التخلص من القادة الذين رفضوا الخضوع له، فنقلهم إلى حاضرة الخلافة حيث أودعوا السجن، وأعد العدة بالطريقة نفسها لمجابهة القوى الأخرى، وسارع إبراهيم بن الأغلب في تكوين جيش قوي يستطع الاعتماد عليه من البربر والصقالبة الذين كان يأتي بهم من أوروبا صغارًا ويتم تربيتهم تربيةً عربيةً إسلاميةً، وفي عام 185هـ/801م شيد إبراهيم بن الأغلب مدينة سماها العباسية أو القصر القديم، لتكون عاصمة لدولته الناشئة، وهي تقع جنوب مدينة القيروان بثلاثة أميال، وبنى فيها مسجدًا وقصرًا وانتقل إليها مع أهله وجنده، وأقطع أتباعه أرباضها، فغدت مدينة ملكية.

‫واستطاع إبراهيم بن الأغلب القضاء على كل الثورات الرافضة للخلافة العباسية، فقد كان إبراهيم من أهل الولاء للخلافة العباسية، وكذلك وقف سدًّا منيعًا أمام  ثورات الخوارج، وتوسعات دولة الأدارسة العلوية في المغرب الأقصى والأوسط ، وظل يكيد لإدريس الثاني محاولاً استمالة كبار زعماء البربر وكسبهم إلى جانب الدعوة للعباسيين، ونصرة مذهب أهل السنة والجماعة، إلا أنه خضع في أواخر أيامه لمشورة أتباعه بالكف عن إدريس الثاني، بعد أن توطدت إمارته ونال من الخليفة كل ما كان يريده. وراح يعمل على أن يكون الحكم في أولاده من بعده، بمباركة الخلافة العباسية التي وافقت على أن تجعل الولاية وقفًا على أهل بيت إبراهيم بن الأغلب في مقابل البقاء على الطاعة بكل معانيها والولاء للدولة العباسية، وأن تكون دولة الأغالبة التي شملت طرابلس (ليبيا وافريقيا وتونس والجزائر) . ‬

وساد البلاد بصورة عامة في أيام إبراهيم بن الأغلب الأمن والرخاء، وعمرت المدن، وأمنت السابلة، وبدأت شخصية إفريقية في الظهور، وكثر أهل العلم وتحولت إفريقية في أيام الأغالبة إلى قاعدة قوية من قواعد حضارة الإسلام.

جهاد الأغالبة ضد الصليبيين :

كون إبراهيم بن الأغلب أسطولاً ضخمًا، في سنوات معدودات، وقاد الأغالبة حركة جهادهم المبارك ضد الصليبيين بقيادة "أسد بن الفرات" في البحر الأبيض المتوسط، فهاجموا جزيرة "صقلية" مرارًا على ((مدى ثمانين عامًا حتى استطاعوا القضاء على مقاومة الرومان )) من أهل الجزيرة وحكامها، وضموها لأراضي المسلمين، ثم استولوا على جزيرتي "مالطة" و"سردينيا" ونزلوا بعد ذلك في كثير من السواحل الأوربية، وبخاصةٍ سواحل إيطاليا الجنوبية والغربية، والسواحل الجنوبية لفرنسا.

لقد عاشت دولة الأغالبة أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها، ويحكمون صقلية، ويفرضون هيبتهم على الدول الأوربية، واستطاعوا في بعض هذه السواحل إقامة حاميات وحصون دائمة، وإن لم يستطيعوا التوغل في بعض هذه البلاد والاستيلاء عليها من أيدي أهلها.

وكان فتح المسلمين بقيادة الأغالبة لجزر البحر المتوسط جسرًا عبرت عليه الحضارة الإسلامية إلى أوروبا في زمن كانت فيه أوروبا في ظلام حالك، وكانت الثقافة الإسلامية الضوء الوحيد في العالم الذي أنار وجه الأرض حينذاك، كما أن سيطرة المسلمين على هذه الجزر مكن من تأمين التجارة الإسلامية في غرب البحر المتوسط .

خاتمة :

‫تعتبر دولة الأغالبة صاحبة الفضل في إرساء أسس إفريقية الإسلامية وجهادها في سبيل الحفاظ على مذهب أهل السنة والجماعة والبقاء في نطاق الأمة الإسلامية العامة،