كثيرة هي المحطات في حياة الإنسان, التي تؤثر فيه وتغير مجرى أحداثها, ويظل أثرها راسخا في عقله وتصرفاته, بل ربما إن حدث ما يرسم طريق إنسان لم يفكر انه سيسلكه, ويجعله واثقا من خطواته في السير فيه , كما حدث معي حين التقيت بالسيد عبد العزيز الحكيم رحمه الله عام 2007 .

   بعد عام 2003 طرقت الكثير من أبواب الأحزاب والكيانات السياسية العراقية, وكنت أغادرها بعد دخولي إليها, لافتقارها للهوية والمنهج الذي تسير عليه, فبعضها عبارة عن تجمع لكسب أصوات الناخبين فقط,  وبعضها شعرت أني غريب وسط كوادرها, الذي ينظرون إلي باستغراب وريبة, دون معرفة الأسباب التي تجعلهم كذلك, حتى اقترح  صديق عزيز علي أن التحق بركب آل الحكيم, فهزني العنوان الكبير لهذا الاسم, الذي كنت أترقب أخباره وأتابع تاريخه الجهادي, حتى أعد التقرب منهم مفخرة ورفعة لا يدانيها شيء .

   وهكذا التحقت بكل سهولة ويسر وترحيب في خط آل الحكيم, لأنهل من ذلك المعدن الطاهر وتلك الكلمات النيرة, التي كتبها السيد محمد باقر الحكيم في علاقة الإنسان مع ربه وعلاقته مع المجتمع, وكيف نحول تلك الكلمات الى سلوك في تعاملنا اليومي, وأنهل من منبع التاريخ الجهادي, واستكمالا لذلك كان لابد أن ادخل دورة في العقيدة الدينية والفكر السياسي لتيار شهيد المحراب, وكان ذلك عام 2007 في مؤسسة شهيد المحراب في النجف الأشرف .

     فصرت انهل الدروس, من أساتذة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف, ومحاضرات على يد أساتذة أكفاء, كنت اسمع بأسمائهم ولكني اليوم اجلس معهم, وأتعلم على أيديهم كالطفل الذي دخل الى المدرسة الابتدائية, لا يعرف أبجديات اللغة, فقد كان الحرمان والخوف يسود في ظل نظام قمعي, ممكن أن يعدمك لأنك تصلي, فكيف يمكن الحصول على كتاب يزيد من معرفتنا واطلاعنا .

     كان من ضمن برنامج الدورة, التشرف بالحضور الى مكتب السيد عبد العزيز الحكيم رحمه الله, في النجف الأشرف, حيث كان يجلس كل أربعاء في مكتبه, ليلقي علينا حديثه الأسبوعي, الذي يؤكد فيه دائما على الالتزام بالمرجعية الدينية, وسط حضور كبير من أهالي النجف وغيرهم كثير, ثم نتشرف بالتسليم عليه وتقبيله, ونشم تلك الرائحة العطرة التي تروي سنين الجهاد والغربة, وتحكي قصة رجال جادوا بأنفسهم لأجل وطنهم, ولكنه ظلمهم اشد الظلم لجهله بهؤلاء المجاهدين, المجهولون في الأرض المعروفون في السماء .

       صادف في أيام الدورة عيد الغدير الأغر, فكان واجبا بعد انتهاء الدرس, أن اذهب الى زيارة مرقد أمير المؤمنين ع, ولكن حين وصولي للمرقد الطاهر شاهدت موكبا كبيرا لأحد الأحزاب التي ظهرت بعد سقوط النظام البائد, وهم يستعرضون برتل كبير من ساحة ثورة العشرين الى المرقد الشريف, يحملون في أيديهم الورود وتصطحبهم الطبول والأهازيج, فأعجبت بجمعهم وترتيبهم وبادر الشك الى قلبي, ولكني تداركت نفسي وذهبت الى الزيارة, وعدت الى البيت الذي أقيم فيه .

     كنت تناسيت ما حصل من هواجس معي, وغابت عن بالي وأصبحت نسيا منسيا, وعدت الى استكمال الدروس الليلية, ثم ذهبت الى الفراش لأستريح بعد يوم شاق كبقية الأيام السابقة, فخلدت الى النوم استعداد ليوم آخر, ولكني وفي ساعة النوم العميق, لم اشعر إلا والسيد عبد العزيز الحكيم قد اقبل نحوي, ووضع يديه على صدري, ليخرج من فمي بلغم كأنه القطران الأسود, أستمر بالخروج حتى كاد يخنقني, فأفقت من نومي مقطوع الأنفاس يابس الشفاه, مسرعا نحو أقرب مصدر للماء لارتوى منه, وليغادر النوم جفوني حتى صلاة الفجر .

        نهضت في الصباح وأنا شارد الذهن, محتار في أمري لا اعرف ما حصل معي, وماهو تفسيره و لا أدري أسال من عنه, حتى تهيأت الأسباب لي لأعرف ذلك, وكأنها رسالة قدر لي أن اعرف تفاصيلها, حين اقتربت من صديق لي كان يحيط به زملائي في الدورة, وهو يفسر لهم أحلامهم بالحرف, فعرفت أني وجدت ظالتي, فأخذته جانبا وقصصت له ماجرى معي, حينها بادرني بالسؤال : هل تولد لك شك مما أنت  ماض فيه ؟ فقلت : له كلا وكيف ذلك؟ فأجابني : نعم إنك تشك فيما أنت فيه !, عندها عادت بي الذاكرة الى تلك الهواجس, حين نظرت الى ذلك الاستعراض, فقصصت ماحصل لصديقي, الذي أجابني أن السيد عبدالعزيز الحكيم قد أزال من صدرك هذا الشك الذي كان وليد اللحظة, تردد كان هو الأخير لي, فمنها لم أتراجع عن السير في طريق ال الحكيم, ولم اشك لحظة في صحة اعتقادي بهم وحبي لهم .

حب لم تؤثر فيه مطاردة قوات الاحتلال واعتقالهم, أو تهديدات الترهيب والقتل, التي اضطرتني لترك عائلتي أيام وليالي, بسبب ثباتي على السير بركب آل الحكيم, ليس تزلفا أو تملقا من اجل الحصول على منصب أو جاه, فما زلت ذلك الإنسان البسيط الذي يعيش في قرية نائية, سهل الله عليه قول كلمات, في رثاء السيد عبد العزيز الحكيم .