1 وأنا فى الثامنة من عمرى كنت اتخذ مكانى المعهود على المقعد الأكثر انزواء أمام الشاشة وعندما أرى صورته أنتفض من مكانى فجأة وأمد اصابعى الصغيرة كى المس وجهه واقبله،وأغنى معه وأقلده بدقة فى عفوية لاحدود لها كانت عادة أمارسها دون وعى أوارادة منى فى نفس الوقت أسمع صوت أمى تنادى وتأمرنى بالعودة إلى مكانى، لكن دون جواب ولم يكن يمروقت طويل حتى تشدنى من يدى وتعنفنى وتبعدنى عن الشاشة قائلة : _ الله يرحمك، سبحان الله ، حتى الأطفال بتحبك بينما أنخرط فى نوبة بكاء معترضة متشبثة بأصرارولا شئ على لسانى سوى _هرجع تانى ها.. فتبتسم وتنظر إلى وكأنها تتوقع منى هذا كانت تلك البداية التى جعلتهم لا يستطعون منع انفسهم من التساؤل عن ذلك الشئ الغامض الذى يجعل الصغار والكباريتعلقون بعبد الحليم على هذا النحو وسرجاذبيته التى لا يقف حاجز بينها وبينه
2
عندما تجاوزت السادسةعشر، تملكنى شعور راح يدفعنى بشدة أن أزورشقة ومقبرة عبدالحليم لم أمنع نفسى ولم أمهد للامر ما كنت أعلم انها مغامرة فقد كنت صغيرة وقليلة الخبرة وجدتنى أمشى فى شوارع الزمالك، أبحث عن ملامح زمنه الهادئ بين وجوه المارة وجدران البيوت والأشجار فأذا برائحة الفل والياسمين تملء نفسى بالرضا والسرور و فى لحظة رأيت الطريق الأخرسرعان ما يرتفع فيه صفير السيارات المؤذى وهى تنطلق مندفعة فأنتبه لأناس يسرعون وآخرون يتصارخون فأسرع الخطى للوصول للبرج المقابل لحديقة الاسماك للسعادة التى تملكتنى حين كنت فى المصعد وعند وصولى لمدخل الشقة الزاخر بنقوش وحروف ومعانى لايتم مسحها ابداً
3
ماكادت قدمى تطأ باب الجناح حتى أحسست بشعور غامض ينبع من أعماقى فبسملت (أن الذى فَرضَ عَليَك اْلَقْرانَ لَرَآدكَ إِلى مَعَادٍ)
درت بعينى فى المكان ، رحت أتأمله فى صمت ،السكون أستوطن الأشياء ،الأثاث ،الأبواب،الجدران، صوره المعلقة فى الزوايا ، وعبق رائحة الورود تملأ الأركان تتوسطه نافذة كبيرة تطل على حديقة الأسماك ،وقفت فى مدخلها أنظرإلى الشارع المفروش بأسفلت يبث لمعان كلون الفضة وإلى العمارات المتعالية والتى تجدها متناسقة كما لو كانت فى صلاة صامتة حتى لتشعر أن لديك القدرة على التحليق فى سماوات لاتصل إليها أبداً غادرت النافذة وقدأمتلأت عيناى بالدمع وأنقبضت روحى
4
لم يكد ينتصف النهار حتى كان شارع الرحمة بالبساتين ينتظرنى التقطت انفاسى ووقفت أبحث عن الحارس وما أن لمحته هناك حتى طلبت منه فتح الباب وبشكل بدأ متعمداً تأخر رد الرجل بعد أن القانى بنظرة فاحصة أعقبها بأنه لايستطيع أن يفتحه أحاول معه مرة أخرى ، وبالطبع لم يكن الأمريسيراً
5
سبحان الله الباب النحاسى للقبر ينغلق على روح وشباب مطرب مشهور كانت تتسابق عدسات الصحفيين على تسجيل كلمة أو همسة منه كنت وحدى ولم يكن هناك صوت سوى دقات قلبى السريعة أقف على قبره دون أن أعمل شيئاً سوى قراءة الفاتحة ، وقبل أن أتلو بعض السور القصار حدث ما لم اكن اتوقعه تناهى إلى من قريب صوت كصوت عبد الحليم أرتجفت خوفاً ، وقلت { بسم الله الرحمن الرحيم } _ليس هذا عبد الحليم ،هو الان ميت _لا تخافى ياصغيرتى تراجعت مذهولة ،كان ذلك فوق احتمالى فصرخت _اعوذ بالله ،أى خرافة هذه
وأخذت أنظر هنا وهناك وأجتاحتنى رغبة جامحة فى الفرار
غير أنه بصوت خافت طلب منى أن أصغى لم يكن من اليسير أن أفتح معه حوراً،ولكننى أجبرت ذهنى على التفكير بترو،وسألت نفسى ماذا جاء بى ألى هنا ، وماذا أريد من نفسى وقبل أن يدير رأسه نحوى سألته:
_ اهذا انت حقاً _ نعم
__ ماأبجدية الحلم قبل عشرين عاماً ياعبد الحليم _كتاب مغلق على نهج ينادى عيناكى ، ومتعة دفء تصغى لعالمك ، وشطآن شوق وحنين تجئ بلا صوت ،وثورة لقاء دون سفور الكلام ، وصباحات ونسيمات ربيع كما فى الفردوس الاخضر وقطرات عطر زرقاء تصبح انهار، ومتعة دفء قاطعته : _ كالنيل
_ثمة احساس لايقال _اريد ميناء لا يتقن الصراخ ياعندليب
قال وهو يقترب منى _ عما تبحثين صغيرتى
_ أبحث عن الرومانسية التى كانت لى قبل زمن _سافرت على جناح طائر لايبغى العودة للوراء _اريد ان اسافر _ بلا مجاديف _اريد ان اسافر _سافرى
6
واستمر الحديث بيننا على هذا النحو فترة طويلة غير ان الظلام حل وكانت العودة الى المنزل مرة اخرىوذلك اليوم المحفور بعمق فى ذاكرتى وعقلى وقلبى ومن تلك اللحظة وانا احدثه حتى اليوم لنكمل كلاماً لم ينته بعد