في الاغتصاب، هل هناك نجاة؟ دواء؟ شفاء؟ أو، ما كلفة الشفاء حين تغتصبُ المرأة مرتين: من طرف فرد ثمّ من طرف مجتمع؟ الأسئلة هنا تفيد كثيرا مادامت هناك حاجة ملحّة إلى أجوبة لفهم مكنزمات تفكير مجتمعات تدين ضحايا الاغتصاب وتحملهن الوزر الأكبر مما جرى لهنّ.


هناك مسالك واقعية لاحصر لها، تكون ضمنها المرأة ضحية لمختلف أشكال العنف: الجنسي والجسدي، بكلّ ما يخلفانه من رجّات نفسية ومساس بالكرامة الإنسانية. لكن، حين يتصالح المجتمع مع مجرم ومغتصب على حساب ضحيته، فذلك يبقى لغزا معقدا يحتاج إلى تفكيك.


الأصول الثقافيّة للمشكلة

جواد مبروكي، أخصائي نفسي، يعتبرُ أنّ “الجذور السوسيوثقافية لهذه المعضلة تتصل بعدة عوامل؛ العامل الأول هو العنف، لأننا مجتمعات عنيفة ويًمارسُ فيها العنف بشكل دوري في البيت وفي الشارع وفي الإدارة، وفي أي مكان حتى في الفضاء العام، والعنف المقصود يشمل السلوكي واللفظي والرمزي”.


هنا، يأخذ مبروكي الأسرة كمثال، فالطّفل منذ ولادته، يعاينُ العنف الأسريّ، والذي تكون المرأة في مُعظم الحالات ضحيةً له، ثمّ يصبح الطفل بدوره عرضة لذات العنف فيما بعد، أي يكون ضمن الحلقات الأضعف في الأسرة”.


من ذات المنطلق، يرى مبروكي أنه، داخل العديد من الأسر المغربية، حتى اليوم، لازالت الأدوار التقليدية تلقى على عاتق الفتاة، فتتكون لدى محيطها تلقائيا تصورات بأنها “في خدمة” شقيقها. وحين تحاول أن تحتجّ بسبب التمييز الجندري داخل الأسرة، تجيبها الوالدة أو الوالد: “هو ذكر”… وبالتالي هذا الذكر نفسه ينمو بعقيدة تفوقية دفينة، بحيث ما يقترفه يمكن تجاوزه، بينما خطيئة الأنثى مكلّفة وأحيانا لا تُغتفر. لكن، حتى بهذا المعنى، هل الاغتصاب خطيئة المُغتصبَة؟”


الذي يريد مبروكي أن يوضحه أنّ هذا الطفل حين يكبرُ ويرتبط بفتاة ما، يعتبرها ملكاً له، وفقا لكلّ التصورات التي انغرست به. هنا، قد يعدّ تعنيفها أو حتى اغتصابها شيئا عاديّا أحيانا، وإذا رفضت سيعتبر أنها فقط تتمنع وهي راغبة. كل هذا لأنه يعتقد في قرارة نفسه أنّ كل شيء متوقف عليه هو فقط في الحكاية بما أنّ الأنثى هي الحلقة الأضعف.


لهذا، يستطرد الأخصائي النفسي، حتى في التحرش، لا يلوم المجتمع المتحرش، بل نعيد الموضوع إلى الدّرجة الصّفر، ونحمل المسؤوليّة للباس الفتاة أو مشيتها أو ضحكتها أو طريقة حديثها. والخطير أنّها حين تتعرض للعنف من طرف شريكها، يقول المجتمع: “ذهبت معه بمحض إرادتها” أو “تمكن من اللّعب بها”، يعني لازالت هي المتّهمة حتى لو كانت في الأصل هي الضّحية.


هذا الاتهام للفتاة دائما، حسب مبروكي، جعلهنّ يصمتن عن الاعتداءات والعنف الذي يتعرضن له وحتى الاغتصاب أو محاولات الاغتصاب، إلخ. لهذا، فالعديد من الذكور اطمأنوا أنّ الوضع يخدمهم وبالتالي يستطيعون فعل ما يشاؤون للمرأة ضدا على إرادتها الحرة ورغبتها الواعية. لكن ما يشغل البال أنّ الثقافة لازالت تعتبر الفتاة المغتصبة شريكاً في ما حدثَ لها، والعديد من الناس يعدون عملية اغتصابها أمرا ليس ذا قيمة كبيرة. وهذا مرعب في الحقيقة.


لكن مبروكي، يردّ كلّ هذا المشكل إلى الثقافة التقليدية القديمةالتي تكرس هذا الوضع، أمام غياب التربية الجنسية عن مناهجنا التعليمية. صارت التّقاليد هي المتكلم الوحيد وصاحبة كلمة الفصل في معظم المشاكل المتصلة بالمرأة. حتى أنّ المفهوم الخاطئ للجنس ظلّ ساريا بنوع من الصمت في الحقل الذهني المغربي، وظلّ مستمرا في عدّ المرأة بضاعة. لذلك، فإن حقها في النشوة الجنسية غير مطروح للنقاش، وكلّ الحديث يتمحور حول فحولة الذكر وأنّ المرأة توجد لإثبات تلك الفحولة.


من جهتها، تجد الباحثة في علم النفس الاجتماعي هدى الداودي أنّ المثير في وقوف المجتمع ضد ضحايا الاغتصاب، يكشف عن مفارقة كبيرة، بحيث يمكن أن ينتفض ذات المجتمع لاغتصاب الأطفال، لكنه لا يثور لاغتصاب امرأة، كأن الاستنكار حكر على الحركة النسائية.


هناك اتجاه لعدم الخوض في هذه التفاصيل، حتى داخل العديد من الأسر. على سبيل المثال، حين تكون طفلتهم ضحية لاعتداء أو اغتصاب، يتمّ التواطؤ ضدها درءا “للفضيحة”. رغم أن العار الحقيقي هو التساهل مع المغتصب أو المعتدي وتركه ينعم بحريته ليعتدي على أخريات.


بالنسبة للداودي، فهذا “التّوجه التّقليداني” انتصر لقرون كثيرة، وأصبح عقيدة متداولة عند شبابنا. لنلاحظ أنه بمجرد أن تمرّ فتاة يقول الفتى لأصدقائه: “يا له من جسد، لو تمكّنت منه لقمت بامتصاصه كاملاً”، فهو “يفصّل ويخيط” في جسدها على هواه ومقاسه. والملاحظ أنّه لم يطلب إذنها للحديث عن جسدها، لكنه يعتبر تأشيرة المرأة بلا أيّة قيمة.


من النّاحية الثّقافية الدّينية، المرأة وجسدها تحت تصرف زوجها، وعليها تلبية كلّ رغباته. لنلاحظ مثلاً أنّ الاغتصاب الزّوجي عندنا لا يناقش كثيرا رغم أنه ثابت وموجود بكثرة.


تفكير نشاز؟

ثمة مثلٌ شعبيّ ومغربي يقول: “لي ما يذبح شاتو، وما يسوط مرتوا، موتو خير من حياتو”؛ وكمقابل بالفصحى لهذا المثل، فهو يعني أن الزوج الذي لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في ذبح أضحيته خلال العيد، ولا يستطيع أن يبرح زوجته ضربا، فالأفضل له أن يموت.


تعلق الباحثة في علم النفس، شيماء أشحشاح، قائلة أنّ “التفكير الذكوري لا حصر لهذيانه بالمغرب وغيره. وحين نقول الذكورية فليس سبة وإنما توصيفا أمينا لواقع يمعنُ في الاعتداء على حقوق النساء حتى وهنّ معنّفات أو مغتصبات، بل ويشرعن للعنف ضدهنّ”.


لكن أشحشاح ترى في ذات السياق أنه، في كلّ هذا الحديث عن الاغتصاب، ثمة شيء يرعبها بشدة، وهو أن تقوم عائلة الضحية بتسوية الوضعية مع مغتصب ابنتهم عبر اشتراط تزويجها له، وهذا قد حد منه القانون الجنائي المغربي، لكن، يمكن التحايل على القانون دائما.


هذا التفكير، حسب ما تفسره أشحشاح لمرايانا، “لازال حاضراً في تصورات العديد من الأسر المغربية، خصوصا في الأوساط غير المتعلمة. هذه الأسر تفكر بشكل استراتيجيّ لدفن المشكلة تماما، لكنها لا تدرك بالضرورة الخطورة التي ستنجم عن ذلك، وتداعياتها على صحّة الفتاة المغتصبة”.


كما تواصلُ أنّه “هناك أيضا حالات أخرى بحيث يتمّ التصالح مع المجرم نظير مبلغ ماليّ معين يتم التوافق عليه بين الجاني وأسرة الضحية، وذلك إيمانا من الأسرة بأنّ دخول مغتصب ابنتهم للسجن لن يكون ذا أهمية بالمقارنة مع حصولهم على قدر من المال. ولنا في حادثة الطفلة إكرام مثال خالص لكيف تراجع الأب في المسار القانوني مقابل المال”.


هذا الواقع، حسب أشحشاح، يوضّح الكثير من الأشياء التي لابد أن نقرأها بحذر شديد؛ منها مثلاً أنّ الأسر تقول: “نعم اغتصبها ولكن”… رغم أن الاغتصاب ليس فيه هامش لـ”لكن”! الاغتصاب اغتصاب، وفقط. عملية اقتحام جسد المرأة ليست شيئا يمكن التهاون معه أو النظر إليه كنتيجة حتمية لإغراءات المرأة، فكثيرات تنتحرن لأنهن لم تنصفن ولم تتغلبن على ضجيج الصدمة.


لهذا، يرى الأخصائي النفسي جواد مبروكي أنّ ذات التوجه جعل ثقافتنا تخلو من مرادف لغوي لمفهوم الاغتصاب، بكلّ ثقله القانوني والإجرامي. حين يتحدث الناس عندنا عن الاغتصاب، لا يتحدثون عنه كجريمة خطيرة ذات أثر نفسي يفقد الضحايا ثقتهن في أنفسهن وفي المحيط، بل يتحدثون عنه كواقعة عادية وعابرة أو يتم حصره في بكارة الفتاة وفقدانها لها أثناء الاغتصاب. حين يتغير هذا في أذهان الناس، سيكون الحديث عن الاختيار والرضائية ممكنا.


هذا المفهوم يمنح المرأة الحقّ في الاختيار، وهو بالتالي ضد مصلحة الرجل الذي يعتقد، لأسباب دينيّة، أنّ المرأة حرثٌ له.


يختم مبروكي قائلاً: في بعض الأحيان، تردني حالات لفتيات تعرضن لاغتصاب أو لاعتداء جنسي، لكي تطلبن شهادة طبية تبين الضّرر النفسيّ الذي تعرّضن له. المؤسف أنّ الأمّهات غالبا تقلن لي: “لقد أخذت ابنتي عند أخصائي في طب النساء، والحمد لله أن بكارتها سليمة”. هذا يلخص الكثير من الأشياء، من ضمنها أنّ الثقافة علمت هؤلاء أنّ فقدان البكارة هو الضرر الأكبر، نظرا لقيمتها المجتمعية، أما الضرر النفسي والعاطفي الذي يحدث للفتاة، فهو عديم القيمة، رغم أن الصدمة قد تعيش معها طيلة حياتها.


في النهاية، لربما قد يظلّ الوضع يراوح مكانه، إلى غاية أن تتحطم حصون التفكير الذكوري، الذي يدين ضحايا الاغتصاب، في المدرسة والإعلام والسينما والتلفزة والدعاية… التغيير ربما غير ممكن مادام النظام الذهني المجتمعي الحالي/القديم يميل بشدّة لصالح الذكر بلا أيّ هامش للتفاوض.