30/8/1438 هـ


خمس عشرة، سبع عشرة، ثلاث وثلاثون، أربعون، تسع وخمسون، ستون، تسعون.

عما قريب... تبدأ معركة الأجساد والأرواح.

عما قريب يبدأ التنافس المحموم ... 

ولكلٍ جمهوره ودعاياته ، ومروجوه ورجال أعماله،

أما المتسابق الأول: فهو الجسد...

وجمهوره أعظم عدداً، وأوفر مالاً، وأكثر حرصاً..

ومن أجله امتلأت الطرق بالدعايات، وصرفت لترويجها الأموال في الصحف والإذاعات والقنوات.

تخفيضات هنا وهناك... وازدحام على أصناف الطعام، من مأكول ومشروب، وأساسي وتكميلي، وتجديد لآلات الطهي، وسفر الأكل..

وكل ذلك من أجله ... حتى يفوز بالسباق طريا شبعانا متلذذا متفكها متنعما ... لم يفته تذوق أكلة، ولا تطعم طبخة، ولاتجرع لقمة.

وقد كان مَتّع ناظريه قبل ذلك ... بصور الطعام والموائد التي يتنافس جماهيره في عرضها على برامج التواصل الاجتماعي في كل دقيقة بل ثانية!

إنه كما ترون.... المتسابق الأوفر وقتاً من ساعات اليوم وبرامجه وأعماله... فهل سينتصر يا ترى؟؟

وأما المتسابق الثاني: فالروح...

التي تعيش منطوية داخل المتسابق الأول تجوع فلا يلتفت إليها... وتمرض فلا يهتم بها ..

وتحاول أن تطل برأسها كلما قدمت الأيام الفاضلة والأزمنة الشريفة ... لعلها تحظى فيها بشيئ من لذة الإيمان، ورشفة من ماء الوحي .

جمهورها قليل، وليس لها في جانب الدعايات نصيب، ولا تجد في مجال الترويج مجيب.

يرى الأكثرون أن في إطعامها مشقة وتعباً، وفي إشباعها جهداً  ونصباً... فليس لها الوفير من اهتمامهم، ولا اليسير من برامجهم وأعمالهم.

فلا يدفعون في إسعادها شيئاً من أموالهم، ولا يبذلون في فوزها نصيباً من أوقاتهم...

فمتى يا ترى... تسبق الروح الجسد وتحظى بالجائزة ؟

وليس بخافٍ عليكم ... أنها إن فازت أخذت معها منافسها ليتنعم معها بالجائزة ، ويسعد السعادة التي لا يشقى بعدها أبداً...

وأما إن فاز هو في هذه الدار ... فله ولها الشقاء في دار البقاء.. مالم تدركه رحمة أرحم الرحماء.

إخوتي الكرام:

في كل يوم تسمعون مواعظ وأحاديث، أحاديث تُعَدّ إذا عُدَّت بالعشرات، أحاديث مختلفة تثير فيكم حين سماعها الشعور بالإيمان والنشاط في طاعة الرحمن.

ولكن ...  هل كان لها أثر في حياتكم؟ هل كانت لها نتيجة عملية ظهرت في أعمالكم أو في بيوتكم أو في أسواقكم؟ هل بدّلت شيئاً من أسلوب معيشتكم أو طريقة تفكيركم؟

هل زادتكم قربا من الله، وبعدا عن موجبات غضبه؟

حين كانت الموعظة اليسيرة من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تؤثر في النفوس وتغير مجرى التاريخ .. أصبحت الموعظة اليوم لا تلعب ذلك الدور  ... مع بقاء أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها؟

إنها الأرواح الجائعة التي لم تلاقِ منا اهتماما  وعناية، وكلما بدأت تشرب من معين الذكر والموعظة عدنا بها إلى صحاري الغفلة والذنوب.

وفضلنا عليها المظاهر الخارجية والأجساد البالية فكان هذا حالنا...

يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته * * * أتطلب الربح فيمـا فيـه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها * * * فأنـت بالنفس لا بالجسم إنسـان

أيها الإخوة:

خمس عشرة، سبع عشرة، ثلاث وثلاثون، أربعون، تسع وخمسون، ستون، تسعون.

ليست هذه أسعار سلع، ولا عبارات بائع في الحراج.

هذه أرقام عرفها أهل الأرواح الندية... والأنفس الزكية

هذا والله التنافس وإلا فلا.

أولئك الذين عرفوا كيف تكون نجاتهم، وأين مكمن سعادتهم.

أولئك الذين أشبعوا الروح لتنتصر على الجسد فتسعد هي وإياه.

أولئك الذين تركوا الناس في لهواتهم وأشغلوا أنفسهم بالمسير إلى ربهم وقطع فلاتهم.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع

عباد الله:

تلك الأرقام .. هي أعلى ما دون التاريخ وأظهر ، وأبان وأعلن من أعداد ختمات القرآن التي كان يقرؤها الشخص الواحد في رمضان - ولربما كان في الخفاء ما هو أعظم - .

لقد سطر التاريخ .. أن الأسود بن يزيد كان يختم في رمضان خمس عشرة مرة، والخليفة الوليد بن عبد الملك سبع عشرة مرة، والمأمون ثلاثا وثلاثين مرة، ووكيع بن الجراح والإمام البخاري أربعين مرة، وأبو بكر بن الحداد تسعا وخمسين، والإمام الشافعي ستين مرة، وزهير بن قمير وأبو العباس بن عطاء تسعين مرة

لقد عرف السلف الأوائل كيف يعتنون بأنفسهم ، ويفرغون لرمضان أوقاتهم،  وينصرفون فيه عن مشاغلهم، ليزدادوا من معينه ثواباً وأجراً.

وإني أعلم أن البعض يدندن بعد كل حديث عن سير السلف ومسارعتهم في الخيرات، فيقول:

أنكم تصيبوننا بالأحباط إذا أكثرتم من هذا الطرق وهذه الأساليب.

ولكن: لسنا نريد إلا السير في ركابهم وتتبع أحوالهم والتشبه بفعالهم.

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم..... إن التشبه بالكرام فلاح


فإن الهمم لتخمد ، و إن الرياح لتسكن ، وإن النفوس ليعتريها الملل ، وينتابها الفتور ، وإن سيَر العظماء لمِن أعظم ما يذكي الأوار ، ويبعث الهمم ، ويرتقي بالعقول ، ويوحي بالاقتداء ، وكم من الناس من أقبل على الجِد ، وتداعى إلى العمل ، وانبعث إلى معالي الأمور ، وترقى في مدارج الكمالات بسبب حكاية قرأها ، أو حادثة رويت له .... .

وإن التنافس على التقرب من الله تعالى لم يُختم بانتهاء القرون الثلاثة ، التي لها فضلها ومكانتها

ولكن لا يعني هذا أنهم استأثروا بالسبق والدرجات العلى دون الباقين ؛ فالسوق قائمة والجنة قد أزلفت للمتقين ؛ لكن هل من مشمر لها ؟!!


فلا ينبغي  أن يصيبك اليأس من اللحاق بركب مَن سَلَف من الأئمة ، ولتجعل من قراءتك لسيرهم دافعاً نحو العمل بجد واجتهاد.

تقبل الله طاعاتكم وختم بالرضى أعمالكم.