(الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) أما بعد: فهذه الباقة الثانية من بستان التأملات في كتاب رب الأرض والسماوات، نسأل الله أن ينفع بها:
----------------------------
➊ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) [التين: 8]
هذا سؤال مفحم لكل من يدعو لنظام وضعي ولنأخذ الديمقراطية مثالًا، فمن قال بلى الله أحكم الحاكمين فليزمه الكفر بالديمقراطية ومحاريتها، وإن أجاب بالنفي فهو كذاب أشر، فكيف يكون المخلوق الجهول أحكم من الخالق الحكيم الخبير.
هذه الآية تنقُض القول بفصل الدِّين عن الدولة أو السياسة، فالدِّين من عند الله، والحكم لله، فمن أعجب العجب وأسْفه السَّفه القول بفصل الدِّين عن الحياة أو السياسة، فكيف لا نحتكم في حياتنا للذي خلق الموت والحياة، وأنزل علينا (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
مرجعيتنا في الحياة عامة والحكم خاصة في الوحي الذي أنزله الله، فكيف تستبدل ما جاء من أحكم الحاكمين بقذارات وخرافات أتفه التافهين(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
----------------------------
➋ (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة: 5]
لا طريق للهداية إلا ما جاء عن ربنا، وذلك في كتابه وسنة نبيه، فمن حاد عنهما (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا).
الهداية من الربِّ جلَّ وعلا فاطلبها منه فهو الهادي إلى سواء الصراط(يا عبادي كلُّكم ضالٌّ إلَّا من هديتُه ، فاستهدوني أهدِكُم)[1].
مَن علِم أن ربه بيَّن له سبيل الهداية فليزمها معظمًا ومحبًّا وشاكرًا للعزيز الوهاب(فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
----------------------------
➌ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 3]
هذان الاسمان العظيمان يكررهما المسلم كثيرًا في صلاته، حتى يعلم أنه يتقلب في رحمة الله كل حين لا سيما رحمته به إذْ جعله مسلمًا داعيًا مصليًا، فكم ممن تعلق قلبه بمخلوق يخافه ويرجوه من دون الله، وكم الذين يدعون حجرًا أو شجرًا أو كوكبًا (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
أفٍّ لمن يزعمون أن الشريعة لا تصلح لهذا لزمان أو فيها وحشية أو سبب للتخلف، فشريعة جاءت مِن (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) منزهة عن كل نقائص القوانين الوضعية وهي رحمة حتى بالحيوان والكافر فضلًا عن المسلم.
من استشعر اسمَي الله (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) خجل من معصيته لربه، وأناب إلى ربه عند زلته، وعلم (أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ).
--------------------------
➍ (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)[هو:112]
الشريعة كاملة وجاهزة وميسرة، وما عليك سوى الاستقامة حسب ما جاء فيها.
الاستقامة المطلوبة (كَمَا أُمِرْتَ) لا كما تهوى أنت أو يهوى غيرك أو عادات وتقاليد مجتمعك أو قبيلتك، ولا حسب استفتاء شعبي أو صندوق اقتراع أو أغلبية برلمان أو اتفاقية دولية أو ميثاق الأمم المتحدة، ولا حسب قرارات مجلس (الظلم).
التزام الشريعة في كل شؤون الحياة بدءً بالفرد ومرورًا بالأُسَرِ والمجتمعات وحتى الدول أمْرٌ مفروض وليس خيارًا مطروح.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالاستقامة فكيف بمن دونه.
----------------------------
➎ (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا)[الفرقان:15]
كل من اكتوى بألم أو ظلم أو نكد في الدنيا فليعزي نفسه بـ (جَنَّةُ الْخُلْدِ) ولا ينس أن بلوغها موعود المتقين، وليس بالأماني.
الخلود من سمات الآخرة، والزوال قرين الدنيا، فطوبى لمن انتقل من شقاء الدنيا الزائل إلى نعيم الآخرة الباقي، ويل ثم ويل ثم ويل من آثر الدنيا الزائلة فكان مصيره الشقاء الدائم في الآخرة.
الآخرة دار جزاء فـ(الْمُتَّقُونَ) جزاؤهم (جَنَّةُ الْخُلْدِ) وهم القائمون بامتِثالِ ما يأمُرُهم ربهم، واجتِنابِ ما يَنهاهم، ولا سبيل لمعرفة ذلك إلا بالعلم؛ إذن فطريق (جَنَّةُ الْخُلْدِ) العلم النافع وهو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله بفهم السلف الصالح.