الشيء المؤكد ان المجتمعات البشرية، سواء كل مجتمع وطني على حدى، او المجتمع الدولي ككل، هي في تغيّر مستمر مع مرور الزمن، هذا أمر ثابت لا يمكن ان تخطئه العين، وهو (تغيّر) يبدو كما لو انه تلقائي وغير مقصود وليس تغييرًا اراديًا مقصودًا ومخططًا له بشكل واع!!
لكن السؤال هنا: هل هذا التغير الحاصل امر ايجابي أم سلبي؟ ام بعضه ايجابي وبعضه الآخر سلبي؟؟ ثم لماذا يحدث هذا التغيّر التلقائي المستمر مع مرور الزمن؟؟ ما هي العوامل والمدخلات التي ادت الى حصول هذا التغيّر بهذا الشكل وهذه المخرجات!؟؟
****
يمكنني هنا ان اقول شيئًا لا شك فيه عندي وربما عندكم!... وهو أن للعلم وللتقنية والعلوم التطبيقية وما ينتج عنها من اكتشافات واختراعات وصناعات مستمرة دور اساسي في خلق التغير الاجتماعي العام ، فمنذ اكتشاف النار واختراع العجلة والدنيا تتغير!!...ولكن كانت الاكتشافات والاختراعات تتم بشكل بطيء حتى يكاد ان يكون بين اختراع واختراع واكتشاف واكتشاف ونظرية علمية ونظرية أخرى قرون عديدة !! لكن مع بلوغ البشرية العقد الثامن عشر بدأت المسافة الزمنية بين كل جديد وجديد تقل حتى وصلنا لنهاية القرن العشرين حيث تطورت التقنية بشكل كبير ومدهش واصبحت تلقي في وجوهنا كل يوم بشيء جديد واختراع جديد مما زاد من سرعة التغير في مجتمعاتنا، فالعلوم التطبيقية والتقنية - ونتيجة تراكم الخبرة عبر القرون - طورت (وسائل الانتاج) بشكل كبير ومثير وهذا ترتب عنه تغيير كبير ومثير بل وثوري في طريقة معاش البشر في الكوكب، بل وساهم بشكل مباشر في تزايد الانتاج حتى في مجال الترفيه والكماليات وبالتالي تكاثر ووفرة كبيرة في (وسائل المعاش) التي بلا شك ان من بينها (وسائل المواصلات والاتصالات) وهو ما أدى الى تغيرات كبيرة ومثيرة وثورية في حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية والعلاقات الدولية، بعضها جيد وبعضها سيء!!

  العالم يتطور ويتقدم من ناحية مادية كل يوم، فنحن بلا شك نتطور نحو الافضل فيما يتعلق ب(الجانب المادي) من حياتنا وحجم وكمية ونوعية الانتاج الزراعي والصناعي والخدمي الضروري والكمالي!!، وهو بلا شك الجانب الاساسي لحياة البشر، فالمال بمفهومه العام (المادة القابلة للتشكيل بما يحقق منافع قادرة على اشباع حاجاتنا الضرورية أو الكمالية) هو أساس وقوام حياتنا، وهذا التطور والتقدم المادي يأتي نتيجة تطور ((وسائل الانتاج)) - بفعل الثورات العملية والمعرفية والفنية والتقنية للبشر - مما يترتب عنه من وفرة وتطور ((وسائل المعاش))... فكأن التطور المادي للبشر امر حتمي مطرد يسير بخط صاعد مع مرور الوقت الى الامام دائمًا على الكوكب، والعامل الحاسم فيه والدافع اليه كما علمنا هو تراكم المعرفة العلمية والخبرة العملية والفنية والقدرة التقنية للبشر فهو العامل الدافع لحركة التطور المادي ... 


هذا فيما يخص ((التطور المادي)) ونمو الثروة و((التقدم العمراني)) .. أما ما يخص ((الرقي الاجتماعي والأخلاقي)) للبشر وحتى (( التقدم العدلي)) وزيادة كمية العدالة في عالمنا ومجتمعاتنا فهو على ما يبدو لي ليس امرًا حتميًا مطردًا !! بل متذبذبًا، فخط ومنحنى الرقي ((الحضاري)) - بالمفهوم الاخلاقي الانساني والعدلي - قد يأخذ في الهبوط في الوقت الذي يشهد خط ومنحنى ((التقدم)) العلمي والتقني - وبالتالي التطور والتقدم المادي في وسائل الانتاج وبالتالي في وسائل المعاش - نموًا وارتفاعًا وصعودًا بشكل متسارع مع كل ثورة علمية وتقنية وصناعية!! فهذا التقدم العلمي والتقني بلا شك ادى الى نمو ((ثروة)) طائلة و((مقتنيات)) هائلة متكاثرة في المجتمع البشري على كوكب الارض بشكل كبير، مثير للدهشة، ولكن في المقابل مازال مستوى خط ومنحنى الرقي الحضاري بالمفهوم الانساني الاخلاقي العدلي (متخلفًا) كثيرًا - وبشكل مؤسف وغريب! - عن مستوى خط ومنحنى التقدم المادي ، والرقي الانساني  والارتقاء الاخلاقي للمجتمعات الوطنية وللمجتمع البشري ككل يتمثل في أمرين:

(1) الأول: 

وجوب تحقيق العدالة في توزيع هذه الثروة المتكاثرة بين البشر، وفق جهد ومساهمة كل فرد وكل مجتمع في انتاج هذه الثروة العامة للبشر، ووفق مبدأ وروح (العدالة الاجتماعية) التي تقوم على قاعدة: "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب انتاجه ومساهمته"

(٢) الثاني:

ضرورة تحقيق حياة كريمة للناس، أي لكل انسان، بغض النظر عن جنسه وعرقه ودينه ووطنه بل وبغض النظر عن مدى مساهمته الفردية في هذا الانتاج المادي العام للبشر، فهو لمجرد كنوه انسانًا وكائنًا آدميًا من حقه أن يحصل على (معيشة كريمة) تليق بالآدميين وفق مبدأ وروح (الكفالة الاجتماعية) التي تقوم على مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته".


هذا ما ينبغي ان يكون وليس ما هو كائن، فقضية تطور وتقدم تحقيق مبدأ العدالة ومبدأ الكفالة في المجتمعات البشرية لازالت متخلفة كثيرًا عن قضية كل هذا التطور والتقدم العلمي والتقني والعمراني الهائل الذي ترتب عنه زيادة وتضخم ثروة البشر المادية في كوكب الارض ((تكاثر المال/ وسائل المعاش الحديثة/السلع والخدمات الضرورية والكمالية/الترفيهية))، مما يؤكد ان مسألة ((الرقي الحضاري)) - بالمفهوم الانساني الاخلاقي - الذي اول تجلياته ((الرحمة)) و((العدالة)) لا يبدو من جهة يتم بشكل محتوم مطرد وسريع وصاعد في سرعته وتطوره، أي أنه لا يجاري ويوازي خط ومستوى سرعة وتطور ((التقدم العلمي والتقني والصناعي)) الذي أول تجلياته تحسين وتكثير بل وتكاثر وسائل المعاش الضرورية والترفيهية في كوكب الارض، وهذا يعني ان هناك فجوة كبيرة وفاحشة بين منحنى ((الرقي الاخلاقي الانساني)) ومنحنى ((التقدم المادي العمراني))، وفي هذه ((الفجوة الضخمة/الفاحشة)) تكمن مأساة ومعاناة معظم البشر المُهمشين والمُهشمين ليس في مجتمعات الجنوب ((المتخلفة)) و((الفقيرة)) و((الديكتاتورية)) بل وكذلك في الاعماق البعيدة والمخفية في أعماق مجتمعات الشمال ((المتقدم)) ((الثري)) و(الليبرالي الديموقراطي)) وخصوصًا في أمريكا حيث طاحونة الرأسمالية المتوحشة تطحن قلوب وكبود وأخلاق البشر!!.. بعكس الوضع في بعض اللدول الأوروبية الغربية التي نظام الكفالة الوطنية فيها يعمل بشكل ((جيد)) وكذلك إلى حد ما نظام العدالة الاجتماعية!

ليس المطلوب تقسيم هذه ((الثروة البشرية العامة)) التي تتكدس كل يوم على ظهر وسطح كوكبنا بالتساوي التام بين المجتمعات وبين كل الافراد ، فهذا امر فضلًا عن مخالفته للانصاف والعدالة هو أمر وحلم ((طوباوي)) وغير ممكن وغير واقعي،  فليس المطلوب المساواة المطلقة في كل شي بين البشر ولا حتى في حصص الانتاج العام لكن المطلوب في مسألة توزيع هذه الثروة مراعاة مبدأ ((الكفالة الاجتماعية الانسانية/ لكلٍّ حسب حاجته)) لكل البشر وخصوصًا الطبقات والفئات المسحوقة والمحرومة والمهمشة بقدر مراعاة مبدأ ((العدالة الاجتماعية العقلانية/ لكلٍّ حسب جهده وانتاجه واجتهاده ومساهمته النظرية والعملية والمالية في هذا الانتاج البشري المتكاثر)).... هكذا قال لي شبح (ماركس) ذات مساء!!... وهذا هو الطريق!
***********
اخوكم المحب
(*) المقالة عبارة عن ((خاطرة ليلية)) كتبتها بطريقة التداعي التلقائي الحر للأفكار ، تركت فيها عفريت (ماركس) يتلبسني ويقول ما عنده، وسأنشرها كما هي ، لكنني سأقوم لاحقًا بمراجعتها بعقل واع للتأكد من صحة ما ورد فيها من افكار وتحليلات!!