من وحي سورة الكهف 21
أي دجال نتقي؟
بقلم / خلف سرحان القرشي
.......
تستوقف المتأمل في هذه السورة العظيمة أنها تحذر من خصلة خطيرة ألا وهي (الكذب)، وتشنع عليها.
وهذه الخصلة هي الفيصل في التمييز والتفريق بين المؤمن من جهة وبين المنافق والكافر من جهة أخرى.
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ).
وورد في حديث مختلف في صحته، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم. قيل: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال نعم. قيل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا".
ويكفي خصلة الكذب قبحا أنها من آيات النفاق وعلامات المنافقين قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ " ولو تأملنا الخصال الثلاثة هذه بعمق لوجدناها جميعها تتضمن الكذب بشكل أو بآخر.
وتكاد تكون هذه الخصلة الذميمة، والخلق الفاسد قاسما مشتركا في كل شر.
أليس الشرك بالله عز وجل هو كذب وافتراء؟
قال الله عز وجل في هذه السورة متحدثا على لسان فتية الكهف: (هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
وقال تعالى متحدثا عن مشركي العرب عموما، وقريش خصوصا:
( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا).
والكذب ليس موجودا بقوة في قضية الشرك وفتنته العظيمة فحسب. بل إنه حاضر أيضا في قضية فتنة المال، فعندما تصف السورة حال الصاحب المحاور الكافر، نجده يمارس كذبا ومغالطة للحقيقة سواء كان يتعمد ذلك أو يتوهمه.
قال تعالى: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا).
والكفر يقوم على الكذب ويتضمنه. إنه تغطية الحقيقة بغيرها، وسترها بخلافها. يقول الشيخ أحمد الحنفي رحمه الله:
"الكفر في اللغة : التغطية والستر. والكفر شرعاً : ضد الإيمان – فإن الكفر عدم الإيمان بالله ورسله – سواء كان مع تكذيب أو لم يكن معه تكذيب ، بل شك وريب في الإيمان ، أو إعراض عنه حسداً أو كبراً أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة وإن كان المكذب أعظم كفراً من غيره".
ويقال لــ (الليل) كافر لأنه يغطي ضوء النهار ونوره، ويقال أيضا لــ (المزارع) كافر لأنه يغطي البذور ويخفيها بدفنها داخل التراب تمهيدا لنموها وظهورها. قال تعالى:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ).
إن ثمة علاقة جلية بين تحذير هذه السورة من الكذب، وبين كونها حامية وواقية بإذن الله تعالى من شر الدجال وفتنته كما ورد في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
ورد في تعريف (الدجال) في معجم الجامع الكبير مايلي:
" الدَّجَّالُ :: كذَّاب ، خدَّاع ، مُدَّعٍ مُضلِّل ، يموِّه الحقَّ بالباطل.
المَسيحُ الدَّجَّال : المسيخ الدَّجّال ؛ شخص يَدَّعي الألوهيّة ، يخرج آخر الزَّمن ، يتّصفُ بالسِّحر والكذِب والتَّمويه على النَّاس ، ويُعَدّ ظهورُه إحدى علامات السَّاعة".
وقد ورد في الحديث النبوي أن الدجال من أعظم الفتن التي تمر بالناس قبل قيام الساعة، وبالتالي فما دونه أيسر وأهون، والوعي بمعاني هذه السورة ودلالاتها نحسبه - والله أعلم- كفيل بإذن الله تعالى بحماية ونجاة من يقرأها ويسبر أغوارها من فتن وشرور كل الدجالين؛ صغيرهم وكبيرهم؛ أفرادا أو جماعات في كل زمان ومكان.
الدجال اليوم قد يكون أحد أقاربك / أصدقائك / جيرانك / زملائك في العمل، كما أنه قد يكون واحدا من التافهين الذين صنعت منهم الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي social media نجوما، وقد يكون من دعاة الفتنة والضلال، وقد يكون من المنافقين الجدد الذين يقتاتون بالدين، ويزايدون على القيم والفضائل؛ وقد يكون من أتباع وقطيع بعض التنظيمات والأحزاب التي تريد السلطة والمال والاستيلاء والتفرد بمقدرات الأوطان والشعوب، ووسيلتهم في ذلك الكذب والخداع والدجل بارتداء عباءة الدين، ورفع شعارات براقة ظاهرها فيه الرحمة، و باطنها من قبلها العذاب، وكذلك بتصنع متكلف للزهد والتواضع والمسكنة، والتباكي على مآلات الأمة ومستقبلها.
وكثير منهم (أَخْبَابٌ) - جمع خِبٍّ - والخِبُّ هو: المُخادع الغادر؛ قال صاحب معجم "الصحاح": "الخِبُّ: الرَّجل الخدَّاع الجُرْبُزُ، تقول منه: خَبِبْتَ يا رجُل تَخَبُّ خِبًّا، مثال عَلِمْت تعلم عِلمًا، وقد خَبَّبَ غلامي فلانٌ؛ أي خدعه" أ. هـ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (لست بالخِبِّ ولا يخدعني الخِبُ).
رحم الله الفاروق فلو قدر له العيش في زماننا هذا، لرأنا - إلا مارحم ربي، وقليل ماهم - فسطاطين فسطاط (الأخْبَابٌ)، وفسطاط (المخدوعين بالأخْبَابِ).
إن بعض القائمين على صناعة الدعاية والإعلان للترويج للسلع والخدمات نحسبهم من الدجالين، وكذلك بعض شركات ومؤسسات التلميع الشخصي التي يلجأ لها بعض مرشحي الرئاسات والمراكز - الانتخابات الأمريكية نموذجا - هم في الغالب - من ممارسي الكذب والدجل والتضليل والخداع.
والقائمة تطول!
وطالما الحالة هذه فما المخرج؟
سؤال كبير واجابته أكبر، ولكننا نكرر ونؤكد ونجزم إن قراءة هذه السورة العظيمة بقلب واع، وعقل متدبر، وذهنية متأملة؛ تمنح فؤاد قارئها فرصة استيعاب مافيها من مبان، وتقود جوارحه للعمل بما أمرت به من معان، كفيل - بإذن الله - بالعافية والسلامة من شر كل الدجالين.
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
.......