عالم يضج بالصراعات المدفوعة بأسباب مختلفة، وألفته النفس البشرية حتى أصبحت نمطا اعتياديا ومن سنن الحياة. وكما هو متعارف عليه في كل الصراعات هناك غالب ومغلوب، ومع مرور الزمن تنقلب الأدوار، إذا ما غير المغلوب من نفسه واتخذ جملة أسباب تساعده في النهوض.
لكن ثمة صراعات النجاة منها شبه مستحيل لامتلاكها تأثير سحري على الشعوب، تجعل منها تابعة لغيرها دون تفكير. فالصراعات الفكرية المنتصر فيها يتمكن من قيادة الشعوب، محولة إياها إلى كائنات مطواعة، كيف لا وقد أحكمت السيطرة على مقود البشرية الأول وهو العقل والاقتناع.
يرصد كتاب الظاهرة القرآنية أحد أهم هذه الصراعات التي دارت رحاها وما زالت بين العالم الإسلامي والغربي الذي تمكن مؤخرا من التأثير فينا عن طريق وسائل خلقت بيننا عقولا تتنكر لنا. منا ولكن ضدنا. ومن أفتك الأسلحة التي استخدمها العالم الغربي لإدارة هذا الصراع هو الاستشراق، والذي تعمد أصحابه في الكثير من الأحيان إلى قلب الحقائق والطعن في الحقيقة، مستعينا بمصادر مزيفة، الأمر الذي خلق جيل كامل متأثر بكتاباتهم التي لا تمت للحقيقة بصلة. ومما زاد الأمر سوءا هو لجوء أبنائنا إلى أخذ أصول دينهم من قوم لا يدينون به.
قبل الخوض في صلب الكتاب يجب أولا التنويه بخصوص أسلوب الكاتب، حيث اتبع بن نبي الأسلوب النقدي بطريقه حيادية جعلت من طرحه موضوعيا تحليليا، بل يعتبر حجة منطقية تخلو من أي انحياز ظاهر، الأمر الذي أضفى على الكتاب مسحة من العقلانية تحدت ظنون الطاعنين والمشككين في ديننا ورسولنا ونبوته.
تدرج بن نبي بين المفاهيم مفتتحا كتابه بجدلية طغت مؤخرا على عقول الكثير بعد سقوط الكنيسة في الغرب وارتقاء نجم العلم، الذي أصبح إله يعبد، فبين القول الذي يروج لنظرية تقول: بأن أصل العالم المادة وأن كل هذا الإتقان هو محض صدفه نتجت عن تفاعلات عناصر المادة، وبين التيار الغيبي الذي يؤمن أصحابه بوجود إله خالق كل شي، ساق بن نبي العديد من الأدلة على بطلان التيار الأول وثبوت التيار الثاني انطلاقا من الفطرة وشواهد العالم القديم على تلك النزعة الغيبية.
اثبت بن نبي أن ظاهرة النبوة هي فكرة قابلة للحدوث لتكرارها في عصور مختلفة ومع أقوام مختلفين وهذا الأساس الذي تبنى عليه أي ظاهرة متنها فيقول: "استمرار ظاهرة تتكرر بالكيفية نفسها يعد شاهدا علميا يمكن استخدامه لتقرير مبدأ وجودها بشرط التثبت من صحة هذا الوجود بالوقائع المتفقة مع العقل ومع طبيعة المبدأ".
أيضا ناقش مبدأ النبوة ووضح الفرق الشاسع بين النبي الحقيقي المكلف وبين مدعي النبوة الكاذب موضحا ذلك بشرح رائع اقتبسنا منه: "النبي له مبدأ وثيق الصلة بالأفكار العامة للحركة النبوية ولها زمان يتناسب مع عرض هذا المبدأ وتوسيعه. أيضا النبي يبشر بأحداث مستقبلية عكس المدعي الذي يكتفي بتكرار الموجود والتحدث بتسهيلات عن الواقع والأحكام". اي إن النبي الحقيقي يبعث بأفكار تعالج مشاكل قومه وتكون من ذات مادة مشاكلهم، فمثلا قوم موسى مولعون بالسحر، غارقين في بحوره، يعرفونه كما يعرف أحدنا راحة يده؛ فآتاهم موسى بآيات تبدو للناظر أنها من جنس أفعالهم ولكنها كانت من آيات خالق الكون الأمر الذي جعل السحرة يدركون أنه ليس بسحر ولذلك آمنوا وسجدوا، وسيدنا عيسى بعث بالشفاء لانتشار الطب في زمانه ونبوغ قومه فيه فكانت آياته أقوى من إمكانياتهم فتبين نبوة عيسى وموسى.
تناول الكتاب أيضا شبهة ركيكة أضنت قائليها في كل المحافل، مضحكة من شدة سخفها وهي أن ثمة تشابها بين القرآن والكتب السماوية الأخرى مدعيين أن القرآن نسخ منها منقول عنها ليس إلا.
فند بن نبي ذلك القول من عدة أوجه وهي:
أولا: قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا وجود لأي أثر يهودي أو مسيحي في البيئة العربية إطلاقا بل كان وسط أمي صرف يخلو من أي أثر تاريخي توحيدي. لا وجود لمعبد أو كنيسة ولم يشتهر أي قسيس من قريش أو غيره.
ثانيا : لم يكن نبي الله يتقن الكتابة ولا القراءة ناهيك عن إتقان لغة أخرى_كسريانية التي كتب بها الكتاب المقدس_تمكنه من نقل الكتب للغته الأم، وعملية النسخ ذاتها تتطلب مجهودا لإعادة صياغة الكلام حتى يتناسب مع لغة وعقلية قومه. وهذا الأمر لا يتقنه الكثير من المتعلمين فما بالك بأمّي.
ثالثا : القرآن ليس تابعا لتلك الكتب بل جاء مصحح لها هادما للكثير من الأفكار فيها وخاصة تلك التي تعرضت للتحريف، فمثلا قال الله ثالث ثلاثة وجاء محمد قال الله واحد أحد، وغيرها الكثير من الأحكام والقصص والشريعة بصفة عامة.
رابعا: ثمة أخطاء تاريخية في الإنجيل تثبت أنه تم تحريفه بعد نزول القرآن، وأنه هو من اقتبس من القرآن وليس العكس.
خامسا: أفكار القرآن كانت غريبة عن تلك البيئة في ذلك الزمان فوصف الجنة والأنهار، وأخبار بني إسرائيل والكثير من المفاهيم التي أثبت العلم صحتها لا يمكن لرجل عربي عاش في بيئة صحراوية معزولة أن يأتي بها من نفسه، ولا يمكن ذلك إلا من خلال وحي سماوي من إله عليم قدير خالق، وهذه بعض الأمثلة:
أولا:
يقول الله سبحانه (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ۖ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ۚ)
كيف لرجل أن يصف شيء لم يره أو يجربه بل لم يسبق لأحد في زمانه أن طار عاليا، وفكرة الطيران في حد ذاتها من المستحيلات أصلا. فكيف له أن يعرف أن من يصعد إلى السماء يضيق صدره ويصبح عاجزا عن التنفس؟
ثانيا:
{الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين}
أثبت العلم دورة الإنسان البيولوجية التي تغذت في وسط مائي حتى تكونت الخلية الأولى واكتملت.
فالطين = ماء + تراب
هل كان سيدنا محمد عالما، هل سجل التاريخ أن ثمة إنسان شاهد كيف تكونت خلية الإنسان الأولى؟
بل سجل القرآن سلسلة تكاثر الإنسان حينما قال: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) وقال (ثم سوىٰه ونفخ فيه من روحه).
وأخيرا
إن تصرفات النبي كانت يحكمها الوعي التام حتى في لحظات نزول الوحي لم يفقد وعيه ولم يقع.
حتى في حادثة الإفك كان سيدنا محمد بين وطأة الشك وبين نار كلام الناس وشائعاتهم، ولو كان ليس نبيا لأختلق آيات من عنده تبرأ زوجه وتنزل أشد العقاب على خصومه، لكنه صبر حتى نزل وحي الله مدافعا عن أمنا عائشة الطاهرة، واضعا قواعد اجتماعية يسير عليها كافة المجتمع.