23/8/1438هـ

ثلاثة موظفين لا بد من فصلهم فوراً.

ثلاثة موظفين لا بد من كف أيديهم عن العمل حالاً.

ثلاثة... ضررهم جليٌ واضح ، وأثرهم مكشوف فاضح.

ثلاثة... يرفضون المشاريع الناجحة، ويؤخرون الأعمال القائمة، ويضيعون الفرص السانحة.

ثلاثة ... طالما تُفقد بسببهم أموال ومكاسب، وتضيع خيرات ومنافع.

ثلاثة.. يحملون شهادات كبرى، وأوسمة عليا ... ولكنها من جامعة: التسويف.

(سوف، ولعل، وعسى)

موظفون من قِبَلنا، يباشرون أعمالهم بمرأى مِنَّا، وتحت علمنا وإرادتنا.

يزينون لنا الراحة والدعة، ويجمِّلون الخمول والكسل .. بعبارات أنيقة ووعود كاذبة، وأمنيات خيالية.

حتى إذا ذهبت الفرصة وانتهى الوقت وفات الفوت ... تخلوا عن إجرامهم فينا، وعادت اللائمة علينا ... فقد كان بمقدورنا إيقافهم، وباستطاعتنا كفُّهم وتأديبهم.

وصرنا كما قال الشاعر:       فيك الخصام وأنت الخصم والحكم


أخي الحبيب: 

الوقت أنفس ما يملكه الإنسان، ولكنه سريع الانقضاء، وما مضى منه لا يمكن أن يعوض أو يعود.

ولذا... كان التسويف داءً دوياً  لا يكاد يسلم منه إلا أصحاب الهمم العالية، والإرادات القوية والعزائم الصادقة.

أما بليد الحس، عديم المبالاة، فهو الذي كلما همّت نفسه بخير، أعاقها (بسوف) وأخواتها ؛ حتى تفجأه الشواغل وتتلاعب به الصوارف.

التسويف: الذي هو المماطلة والتأجيل في تنفيذ المطلوب، أمرٌ أجمع العقلاء على ذمِّه والتحذير منه , وأنه داء عُضال ومرض قتال.

 ولقد جاء علاجه في الوحي الإلهي و الحديث المحمدي:

1-  تارة بالأمر بالمبادرة، والحث على المسارعة وانتهاز الفرصة واغتنام اللحظة:

كقوله تعالى (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)

وقوله (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)

وقوله سبحانه (فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا)

ومدح أنبياءه وأصفياءه فقال ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات)


2-   وتارة بالكشف والتحذير عن جملة العوائق التي ستصيب المفرطين المماطلين:

فعن أبي هريرةرضي الله عنه  قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال الصالحة سبعا:

هل تنتظرون إلا فقراً منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا - أي يصيب بالفند وهو الخرف -، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" رواه الترمذي

وقال صلى الله عليه وسلم : "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"

أيها الأخ الكريم:

إن من لا يقفز إلى الفريسة تفلت منه، ومن لا يغتنم الفرصة في وقتها لا يجدها، ومن لا يضرب الحديد حامياً لا يستطيع أن يضربه إذا برد، والذي يؤجّل ما يجب عليه لا يقدر أن يؤديه كاملاً.

 والتسويفُ جند من جنود إبليس عظيم، طالما خَدَع به الناس، وهو سُمُّ الأعمال، وعدوالكمال ، ونتيجته : مرارة الخيبة، وحسرة الإخفاق.

         والمرء مرتهن بسوفٍ وليتني ... وهلاكه في سوفِهِ واللّيتُ

ولا يزال العبد بخيرٍ ما كان له واعظ من نفسه، وكانت الفكرة من عمله، والذكر من شأنه، والمحاسبة من همته.

 ولا يزال بشرٍ ما استعمل التسويف، واتبع الهوى، وأكثر الغفلة، ورجَّح الأماني.


يا عبد الله:

ما يدعوك إلى التسويف اليوم، هو موجود غدا، ومشاغل الأمس أقل من مشاغل اليوم، ومن طال عمره كثر همه وشغله.

وعظ أبو الدرداء - رضي الله عنه - الناسَ فقال: "  ما لي أراكم تَبنون ما لا تَسكُنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتُؤمِّلون ما لا تُدرِكون؟ فإن مَن كان قبلكم بنَوا مشيدًا، وأمَّلوا بعيدًا، وجمعوا كثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا، وجمعهم بُورًا، ومساكنهم قبورًا".

وقال لقمان لابنه: "أي بني، إنك من يومِ نزلتَ إلى الدنيا.. استدبرتَ الدنيا واستقبلتَ الآخرة، فأنت إلى دار تُقبِل عليها أقرب من دار تَبتعِد عنها".


يا عبد الله: إنه إن صح عزمك ، وعلت همتك، واتضح أمرك ...

فاعلم أن أول مشاريع العمر التي لا تنتظر التأجيل ولا تقبل التسويف : هو البدار إلى الله والتوبة إليه ، فإنه أولى ما يحرص الشيطان في تثبيطك عنه، وإنه لمفتاح الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)

ويقول (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا)

ويقول (إن الله يحب التوابين)


مَضى العمر النَبيل بغير فضل       فَدونك ما بقي فاجعله فضلا

وَتب وارجع إِلى مَولاك واعلم       بأَنَّك قَد أَضعت العمر جهلا

دَع التَسويف إِنَّ النفس تدعو       إِلى شَهواتها فرعاً وَأَصلا

فكن حَرباً لها سلماً لِقَومٍ       أَهانوها مخالفةً وَعدلا.


وهنا وقفة تأمل: 

فإن الإمام ابن القيم رحمه الله يُسائلك:

" كم جَاءَ الثَّوَاب يسْعَى إِلَيْك فَوقف بِالْبَابِ، فَرده بواب سَوف وَلَعَلَّ وَعَسَى "

لعل ذلك كان منك كثيراً ... ولكن:

ها هي أيام الثواب العظيم، والفضل الكبير، والأجر الجزيل، والرياض الغناء، والسعد والهناء، و الفوز والرضى.

ها هي تلوح في الأفق مقبلة ... في شهرٍ  ما أسعد من أدركه وأحسن فيه عمله.

ويا خسارة من كان التسويف مركبَه، وخيالاتُ الأماني بضاعتَه.

فاعتبر  بتقصيرك فيه في السنين الماضية، واعقد العزم على اغتنام لحظاته القادمة..

والله الله في الجد والاجتهاد، وصدق العمل ،  بعيدا عن شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون، فهي أضر شيء على العبد.

ومَن بذر شجرة ( السين وسوف، ولعل وعسى) ، أثمرت له الخسران والندامة والأسى.