من وحي سورة الكهف 20

مقارنة ومقابلة ج2

بقلم / خلف سرحان القرشي

............

بعد حمد الله عز وجل، والصلاة والسلام على نبيه الهادي الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، نستكمل في هذه الحلقة، ماكنا قد بدأناه في الحلقة السابقة من حديث عما أحدثته سورة الكهف - التي نزلت مبكرا - في نفوس المؤمنين الأُوَلْ من توجيه وعزاء وسلوى، وعما أيقظته في أعماقهم من بشائر وآمال، وفي الوقت نفسه عن الرسالة التي حملتها لأعدائهم اللدودين؛ كفار قريش آنذاك، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدهم بالقرآن الكريم جهادا كبيرا.

إن قصة سيدنا موسى عليه السلام مع الرجل الصالح / الخضر كانت تحمل في طياتها أهمية العلم، وضرورة الارتحال له وفي سبيله، وإنه لمن العجيب حقا أن تنزل آيات هذه القصة على قوم، كان العلم وطلبه والسعي في سبيله من آخر اهتماماتهم فيما نعلم، وعطفا على مانقله لنا التاريخ عنهم، فالأمية كانت تضرب عليهم بأطنابها. وغير الشعر وشئ من أيام العرب وقليل من الطبابة البسيطة لم يكن ثمة ما يستحق الذكر.

والمتعلمون منهم رغم ندرتهم، كانوا يستثمرون مقدرتهم على القراءة والكتابة في (الحساب) لأغراض التجارة، ومعرفة الأشهر الحرم، وكتابة العهود والمواثيق ليس غير.

أما إن سالت عن الفلك، والتاريخ بمعناه الواسع، والفلسفة والمنطق، والكيمياء والفيزياء والأحياء ونحوها فكانت غائبة تماما عن المشهد.

وكأني بآيات السورة الكريمة هذه وغيرها من الآيات التي تحث على العلم والتعلم، تقول للطرفين آنذاك، وللأمة من بعدهم وإلى أن تقوم الساعة؛ إن مايُعَوَلُ عليه ويدوم أثره ونفعه ويستحق التوارث والتنافس هو العلم المبني على اليقين والرشاد، والمسدد بتوجيه من الله عز وجل.

نزلت آيات قصة موسى عليه السلام مع الخضر قبل هجرة المسلمين إلى يثرب، و يثرب كانت تقطنها قبائل يهودية لدى أفرادها علم من التوراة، وفيهم ومنهم أحبار وحاخامات وكان من المحتمل والوارد أن يتبادر إلى بعض المسلمين بعض وجل وخوف وشعور بالدونية العلمية أمام أولئك اليهود حينما يجاوروناهم، ولكن القرآن الكريم من خلال هذه الآيات يبدد ذلك الخوف والوجل - إن وجد حقا - ويقول لهم أن نبي أهل الكتاب؛ موسى عليه السلام؛ حامل التوراة ومتلقي الألواح، هناك من هو أعلم منه، وأُمِرَّ أن يرحل إليه ويتبعه ليتعلم.

ومن يدري لعل الزمن يدور دورته، والفلك دوار كما يقال، ويأتي وقت يتعلم منكم أولئك اليهود الذين أعلمكم الله بهذه القصة عن نبيهم، والتي هي ليست موجودة في كتابهم المقدس؛ (التوراة) .

ألم يتعلم فيما بعد (كعب الأحبار) بعد إسلامه رضي الله عنه من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علم غيره من الصحابة! وغير (كعب) كثير!

ألم يُحَكِمْ اليهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعض قضاياهم.

قال تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِين).

وفي مناخ كهذا، لم يكن مستغربا منه عليه الصلاة والسلام - الذي أدرك من أول آية نزلت عليه أهمية العلم والتعلم- بعد غزوة بدر الكبرى- أن يجعل فدية الأسير القرشي المتعلم، تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.

يالبؤس الملأ القرشي، ويالفداحة خسارتهم! يخرجون محمدا صلى الله عليه وسلم من مكة، ويفرطون في ماجاء به من الحق والعلم - النافع دنيا وآخرة - بينما هو عليه الصلاة والسلام برجاحة عقله يستثمر حد الثمالة مالدى قليل منهم من علم مهما كان ضئيلا!

في القصة الأخيرة في هذه السورة؛ قصة ذي القرنين نجد معانٍ عظيمة، وإشارات بالغة الدلالة لبناء حضاري أقامه رجل مُسَدَدٌ أخذ بالأسباب والمسببات، وأهمها العلم واعتمد على مسببها عز وجل.

في ظني أن قصة ذي القرنين تعطي بشائر عظام، وآمال جسام للمسلمين الأوائل بأن بوسعهم بناء مجد، وصناعة حضارة مثلهم مثل ذي القرنين.

سورة الكهف العظيمة تحمل في كثير من آياتها معنى الرحيل والارتحال، وجدوى الهجرة، وتبين أثرها النافع متى ما كانت في سبيل الله، ومن أجل الدين والحق والعلم ونفع الإنسانية، وعمارة الكون.

تأمل معي أيها القارئ الكريم قصص فتية الكهف، وموسى عليه السلام مع الخضر، وقصة ذي القرنين.

ألا تجد فيها رحلة ورحيلا، وهجرا اضطراريا أو اختياريا للأهل والولد والمنزل والمقام.

الرحيل مر كما يقال، ومغادرة الوطن ومراتع الطفولة، وذكريات الصبا، وليالي الأنس أمر يعز على الاحتمال. وصفوة الخلق عليه الصلاة والسلام عبر عن هذا المعنى أبلغ تعبير في مقولته الشهيرة عند فراقه لمكة، والدمع يترقرق في مقلتيه الشريفتين: (والله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أن أهلك اخرجوني منك ماخرجت).

لذلك كان من المناسب أن تتنزل هذه الآيات المخبرة بهذه القصص قبل رحيل الرسول ومن معه إلى يثرب، لبث الأمل، و شئ من التعزية لهم، وإعطائهم أملا بأن رحيلهم سيكون مثمرا ومؤثرا.

هذا والله أعلم وأحكم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

.......