إن لكل علمٍ وتخصص لغته المعروفة، فلا يجوز لمحدثٍ أن يحاكم بألفاظه ومصطلحاته الفقهاء، كما لا يصح -أيضا- أن يقحم المشايخ أنفسهم من الانتقاص من أهل الفكر ومن رسالتهم. ومع الأسف كل هذه الإشكاليات تنبع من فهم اللغة، فلغة الفقيه لا كلغة المحدث، ولغة المفكر لا كلغة الفقيه وهكذا، فلابد من فهم لغة الكاتب بالإحاطة به وبسيرته كما يقول أهل التحقيق (الطناحي مثلا) وقبل ذلك الإحاطة بكتبه ونتاجه وأخذه كله، وكما هو معلوم فالمعاني تطلب الألفاظ وحتى نُحصّل المعاني فلابد لنا من الإحاطة بألفاظ العالِم لا أن نطلب المعاني من ذات اللفظ المجرد أو من صور سابقة.

     وقد وقع في يدي مثال أود عرضه لتتضح الصورة في ذلك فأقول:

     إن كتاب العلامة المحقق المدقق الباحث محمد عوامة (حجية أفعال رسول الله حديثيا وأصوليا) لكتابٌ جامعٌ مانعٌ في بابه، وقد سد ثغرةً في الفهم الشرعي، ولكن في ثنايا الكتاب تعرض فيه لشخصيتين عظيمتين أولهم كان الفقيه المفسر العلامة محمد أبو زهرة- وليس يهمني تفصيل كلامه هنا- وثانيهما العلامة الدكتور الفيلسوف الفقيه المفكر محمد بن عبدالله دراز.

فقد قال الشيخ عوامة في ص ٤٩:

(فهل من المعقول بعد ذلك أن يجرِّئنا الله تعالى على سوء الأدب مع نبيه فيقول قائل: كان يأتيه الوحي تارة بالتعنيف الشديد، والعتاب القاسي، والنقد المر!!).

     وذكر في الهامش أن المقصود هو الدكتور دراز وقال: (غفر الله له هذه الكلمات، ورحمه الله على حسن قصده في الكتاب).

     قال علي: بل غفر الله لك يا شيخ عوامة على هذا الفهم الخاطئ، فليس دراز -وهو المدافع عن الإسلام والقران والرسول صلى الله عليه وسلم- من سيسيء أدبه على رسول الله، وكيف يفعل ذلك وهو الأديب البليغ العالم بعدة لغات والضليع بالعربية والغائص بالفلسفة الإسلامية والأوروبية العابد الزاهد كما وصفه من عاشره، وصفاته هذه لا يتناطح عليها عنزان، فكيف يُتهم بسوء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

     إن الخلل هو في تناول لغة دراز وتحكيمها وفقا للغة عوامة التي تحرص على الألفاظ والمظاهر دون المعاني والمقاصد والجواهر، وهذا طبيعي أن يكون مع من أفنى عمره بالتحقيق والتدقيق فهذه عقلية نحتاجها في الإسلام ولكن لا أن نجعلها حكما على لغة الفقهاء والمفكرين.

     ولذلك فحين نفهم لغة دراز نستوعب أن سياق كلامه الذي ذكره الشيخ عوامة مخالف عما فهمه، فإن دراز ساق كلامه ليثبت أن هذا القرآن ليس من عند رسول الله، فذكر المثال الأول: وهو أن الوحي انقطع عليه في فترة الإفك ولو كان القرآن من عنده لألف قرآنا، ثم ثنى بالمثال الآخر وذكر فيه عتاب القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشديد حتى في المباحات، فلو كان هذا القرآن من عند رسول الله لما عاتب نفسه بأبي هو وأمي.

     ولو قرأ أي إنسانٍ كتاب النبأ العظيم لدراز والذي عناه عوامة، لعلم مدى دفاعه عن الإسلام وعن نبي الإسلام بل إن من يقرأ هذا الكتاب لن يكون بحاجة لقراءة كتاب عوامة لأن زبدته موجودةٌ فيه.