لا يمكن إطلاق وصفٍ واحدٍ على الصحافة السعودية خلال العقود الأخيرة. فقد تأرجحت علاقتها بالدولة في البدايات، قبل أن تنظم بصورة صارمة. كما تأرجحت علاقتها بالرؤى الدينية، ويرى كثير من رواد الصحافة أنها لعبت دورا في التحديث، خصوصا في القضايا المفصلية، مثل تعليم البنات، ومواجهة الأفكار المتشدّدة.

لعبت الصحافة دورا كبيرا في ما تعرف "معركة الحداثة" في ثمانينات القرن الماضي. كانت الملاحق الصحافية موضع جدال كبير، بين الأدباء الحداثيين والمعارضين للحداثة، حتى حسم النقاش، بصورة أو أخرى، بعد كتاب عوض القرني "الحداثة في ميزان الإسلام" والذي قدم له مفتي السعودية آنذاك، الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، وتحديدا بعد العمليات الإرهابية التي استهدفت المملكة، دخلت الصحف السعودية فترة "ربيع" قصيرة، امتدت تقريبا من 2003 إلى 2006، لتكون حقبةً مختلفةً في الحوار مع السلفية والأفكار الجهادية والتشدّد الديني. كُتبت تقارير ومقالات نارية، وامتد النقاش حول المناهج الدراسية، والحركات الدينية، والمواطنة والدولة، من مركز الحوار الوطني، إلى صفحات الرأي. برعاية رسمية بالتأكيد.

لم تكن الصحافة في السعودية على منوالٍ واحد، وإن كانت كلها حكومية، ليس من ناحية قوانين تأسيسها، فالصحف مؤسساتٌ خاصة، وإنما من خلال تعيينات رئيس التحرير، والذي لا يتم إلا بموافقة وزير الإعلام. وإن خلت الصحافة في السعودية من رقابةٍ قبلية، إلا أنها قلّ أن تخرج عن الخط الحكومي المرسوم لها.

يقودنا هذا الحديث إلى الراحل، رئيس تحرير جريدة الرياض السابق، تركي السديري. والذي انتقل إلى رحمه الله تعالى الأسبوع الحالي. يعتبر السديري من دون شك من أكثر رؤساء التحرير تأثيرا، وإثارة للجدل في المملكة، والذي رأس تحرير صحيفة الرياض أربعة عقود، نقل خلالها الصحافة السعودية من مستوى إلى آخر.

لم تكن هذه النقلة على صعيد الحريات، فهو أمر لا يستطيعه. وإن كان يحاول بشدة دعم الكتّاب الذين يتم إقصاؤهم أو تهميشهم بسبب انتقاداتهم التيار الديني، خصوصا في الحقبة التي كان هذا صعبا فيها، ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، إلا أن السديري نقل الصحافة من مستوى إلى آخر على الصعيد العملي.

لم يكن السديري من أتباع مدرسة تحقيق الربح فقط، في مؤسسة صحافية خاصة، يفترض أنها ربحية. كان مؤمناً بأمرين، الأول أن الصحافة أداة تغيير وتحديث في المجتمع، بالمعنى الدارج في العالم الثالث، والذي يعتبر الصحافة أداة تحديث اجتماعي، وبالتالي الحرية غير مهمة. الأمر الذي انهار تماما في العقد الأخيرة، إذا اكتشفنا مع وسائل التواصل الاجتماعي أن الشعوب العربية أكثر تقدّمية من حكوماتها.

الأمر الثاني الذي آمن به السديري هو قدرة السعوديين على النجاح. لذا فتح المجال لهم للعمل الصحافي، في الوقت الذي لأسباب اقتصادية، كانت الصحف السعودية تعتمد على غير السعوديين في عملها، وتستغلهم، بصورة أو أخرى، من خلال نظام "التعاون" في المؤسسات الصحافية، والذي يجعلهم يعملون بتكاليف أقل.

وظف السديري السعوديين في صحيفة الرياض برواتب عالية ومجزية، وعندما عملتُ في الصحيفة بين 2007 و2011 كان طاقم التحرير سعودياً بالكامل. كما أشرك الصحافيين في ملكية الصحيفة، ما جعل أدوات تطوير العمل الصحافي أسهل، بسبب وجود نسبة كبيرة من ملاك المؤسسة من العاملين فيها.

هناك جيل جديد لم يعرف السديري إلا من مقالاته الأخيرة، والتي لم تكن أفضل ما كتب. عمر تركي السديري في الصحافة يتجاوز الخمسة عقود، عمل فيها في حقب تاريخية متغيرة، وهو تغيّر، وطريقة كتابه وتناوله للقضايا، ما يعني أن تقييمه بناءً على فترة واحدة ظلم للرجل وتاريخه. 


(العربي الجديد)

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/5/17/%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D9%8A-1#sthash.EOqX9bsY.dpuf