- هل حقًّا كان أبي علي وشك الانتحار ؟

- نعم يا بني ..

- و لكنه لم يفعل !

- أجل .

- ماذا حدث بعد ذلك ؟ انتهت الأوراق معى عند هذا الحد .

- بقيت رسالة أخيرة ، أجمل ما كتب والدك و لكنني أحتفظ بها معيّ دومًا . دعني أقرأها عليك .

ترقبت عيناه و جوانحه ببهجة تشبه بهجة ليلة العيد هذه الكلمات .

" عزيزتي / ناي

لا أعلم بعد هل يحق لي أن أصفك بتلك الصفة أم لا ! بل لا أدري بأي حقٍ أكتب لكِ تلك الكلمات . هناك شئٌ أقوى من سيطرتي يدفعني لأخط تلك الكلمات في تلك اللحظات البائسة .

أكتبُ إليكِ لأعتذر !

الآن ، و أنا أتذكر قصة ذلك الشاب الراحل - ربما يسمح لنا القدر يومًا أن أقصّ عليكِ قصته - تذكرتك ، تذكرتُ ذلك اليوم الذي أنرتِ فيه البيت المجاور لجدتي .

تذكرتُ طلتك ، و تلك المرة الأولي التي التقت عينانا ، أتذكرين ذلك اليوم ؟ ربما لا ، من أين لكِ أن تلاحظي وجودي ..

تذكرت ليلة القصف الأولى ، ليلة أن أمطرت عيناك علي حياتي دموعًا كالمطر ، ليلة بدء العاصفة التى لا تزال تشتد و تنتشي كل يومٍ بضربي بصواعقها .

أنا آسف عزيزتي !

آسفٌ لأنني تركتُكِ تبكي ، آسفٌ لأنني عجزت حينها و كل حينٍ مررت بِه .

آسفٌ لأنكِ رحلتِ من فلسطين ، لأنني لم أدافع عن بيتك ، لم أشارك في صد العدوان ، لم أمنع معاهدة السلام تلك ، آسفٌ لأنني لم أكن صلاح الدين .

أسفٌ لأنك مُنعتِ من الذهاب لمدرسة الحي ، و هُجِّرتِ من بيتك لأطراف الأرض .

أسفٌ لأنني لم أمنع سورية من أن تتخذ مسار الفتن و القتل ، ففقدتِ حرمك الآمن مرتين !

أسفٌ لدفعك لمصرَ دفعًا و إن كانت لا يمكنها أن ترعى زيتونتك المفضلة .

أسفٌ لاضطرارك للعمل بدلًا من أن تكملي دراستك المنقطعة منذ زمن !

أسفٌ لأنني أعجز أن أحدثك عمّا يملأني تجاهك !

أنا أسفٌ عن كل شئ ، فعلته و لم أفعله ، إلا أنّه أحزن قلبك الندي ! "

_ لم يسعني الوقت يومًا لأسألك هل قبلتِ اعتذاري !

- قبلتُ اعتذارك مذ تزوجنا ! و إن كنت لا أرى لاعتذارك حق ..

- حسنًا ، هذا جميل ، و إن كثرتُ حقوقك عليّ . كيف حال صغيري الآن !

- هل عاد مصطفي يا أبي بعد اختفائه ؟

- ربما يا بني .. ربما عاد في يوم ما بعد رحيلنا من مصر .. قبل أن أرحل ، رأيتُ فقط جسدًا يشبهه و لكنه ليس هو !

- ماذا حدث عند الجسر يوم ذهبت إليه ؟

- ذهبتُ فوجدته مزدحمًا كعادته ، ثم تذكرتك والدتك فعدتُ مرةً أخرى ..

- ثم ماذا ؟

- إنك كثير الأسئلة اليوم ! ثم سارت الحياة كما كانت و لكن الحظ صار صديقًا لي هذه المرة .

- ثم ماذا حدث ؟

- تزوجنا ثم سافرنا إليّ هنا ، ثم جئت أنت لتسأل ماذا حدث ..

- و فلسطين و سوريا ؟

- كما هما يا بني ، كما هما ، سآخذك يومًا هناك فلا تتركهما أبدًا . هما جزءٌ منك فلا تتنصل منه فتسقم !

- هل هما جميلاتان كتلك الصور ؟ كالحكايا التى تقصّاها عليّ ؟

- بل أجمل !

أَنِّي لنا بعودةٍ لا ترحال بعدها أبدًا !