Image titleالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

من المتعارف عليه شرعا وعقلا وعرفا أن الأمة لابد لها من حاكم يستشير كبراء قومه لتسيير دواليبها، يختارهم من كفاءات أدركها عبر أداءاتـها المختلفة في شتى المجالات، وقد أمكن قديما الاحتكاك بكل الرعية لقلتهم، أما الآن فقد انتعشت الظروف حيث يستحيل استفتاء كل الناس كما كان على العهود السالفة، ومنها عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين المهديين ثم تابعيـهم، لتوسع الرقعة الجغرافية للبلد وكثرة جماهيره، والكفاءات مخبوءة بين ثنايا هذا الجم، ولذلك لجأ الإنسان إلى تحديث الطرق والأساليب قصد التحسين مراعاة للأذواق السليمة والنفوس الرفيعة، فألجىء البلد إلى استحداث هيئة المجلس المنتخب من قبل الشعب يمثله في مختلف جوانب الشورى، ثم لـم نلحظ تطورا زائدا على هذا المنوال إلا استحداث هيئة أخرى أعلى منه تدرس نتائجه وسمـيت باسـماء عديدة ومنه اسم مـجلس الأمة كما هو معمول به في الجزائر، ثم يحال القانون الـمصادق عليه إلى هيئة عليا لتحكم على مدى دستورية القوانين فتـقرها أوتعيدها إلى الـمجالس لإعادة الدراسة.

وإذ أذكر الـمجلس الشعبي الوطني الجزائري الذي يتأهب للتنصيب بعد الـمصادقة النهائية على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة الـمنظمة يوم الخميس 04 / 05 / 2017 م الـموافق لـ 08 / 08 / 1438 هـ، فإنني أود التطواف على إرهاصاتـها، ومـخاضات الأحزاب المشاركة فيها، ومواقف النخب والشرائح الشعبية منها، حيث يكثر بعد كل استحقاقات تشريعية أومحلية أورئاسية الحديث حول المشاركة والمقاطعة والتزوير والورقة الملغاة، فيغني كل وصلا بنصر والنصر لا يلوح لهم بذاك.

لقد رأيت أن يكون حديثي حول هذا الأمر الآن لأن الرؤية لن تكتمل يوم الحدث مباشرة.

إن مـما ينبغي الانتباه إليه في حياة أي هيئة ومنها الحزب السياسي مايلي:

1 / الانتخابات وقفة وليست استراتيجية يبني عليها الحزب قوامه.

2 / الانتخابات لا تعني له أكثر من محطة يقيس بـها شعبيته، ونتائج جهده الميداني في التعبئة على مدى سنوات.

3 / الانتخابات هي نتاج جهد مدة لا يقظة بعد غفوة.

4 / الانتخابات هي موعد فحص أداء النائب لإعادة الثقة فيه أوعدمها من قبل كتلة شعبية أوصلته لتشريع ما يخدمها اجتماعيا واقتصاديا بالأخص، والتأثير إيجابا أوسلبا على الحزب الذي فوضه لذلك، قد تعاد النظرة إليه بإكبار وإجلال لاصطفاء مرشحه ولو كان شخصا آخر، أوتـهان كرامته بسببه فترمى ورقة قائمته في سلات المهملات.

5 / كل انتخاب له تأثير على الذي يليه فالتوفيق في التشريعيات مكسبة للمحليات ثم الرئاسيات والإنساء فيها مندمة مؤثرة على ما بعدها.

ولا أخفي سر توقعي هذه النسبة الزهيدة في التصويت مثل سائر كثرة جليلة من الملاحظين، وبالمقابل المقاطعة الضخمة وحتى الأوراق الملغاة مـا قزم نسبة الأصوات المعبر عنها حقيقة أوتزويرا أوتضخيما.

وقد يكون سبب توقعي هو تكاثر الطبقة المثقفة العارفة بـما يصلحها من غيره والتي لا ينطلي عليها المباكي التي يتزايد بـها الناس على بعضهم.

ومـما نبهني إلى ذلك الوضع العام للبلاد والعباد وبالأخص ما ألفيناه من تذمر كبير بين طبقات المجتمع الجزائري بعد المصادقة على قانون المالية الذي وصف بالقاصم لظهر الشعب والخارم لجيوب الناس والمجوع للأمة.

كما أن الأدلة القوية التي قدمتها السلطة بين يدي متوقعي هزال نسبة المشاركة هي المساعي الحثيثة لإقناع الناس باللقاءات المحلية والوطنية، وأذكر في هذا الصدد لقاء جمعني بالسيد رئيس دائرة البرواقية في ولاية المدية يحث فيه مجموعة من الجمعيات على تحسيس الـمواطنين بضرورة المشاركة، لكنني ذكرت له أهـمية منح الحرية لهم في ذلك، أما إجبارهم بـهذه الطرق فهو استفزاز قد يساهم بدرجة كبيرة في تـهاطل التساؤلات المختلفة الـمؤدية إلى الـمقاطعة حتما، وهذا ما حدث.

وقد يكون هذا السعي استهلاكا فقط بدليل التـغاضي عن الفيديوهات الداعية عبر الأنترنت إلى الـمقاطعة دون تحرك أمني، مع وجود فيديوهات أخرى داعية إلى التصويت ومحذرة من مغبة السقوط في فخ المريدين للبلاد شرا، ومنه اتهامها بعدم الاستقرار الذي قد يتخذ ذريعة لعواقب غير محمودة.

إلا أن التساؤلات الشعبية المـتضاربة فكانت حول الـمشاركة أفضل أم الـمقاطعة؟ فكان النقاش حسب التوقعات لـم يـمكن لأحد إقناع غيره بتوجهه، إذ يرى أنصار الـمشاركة غلق الـمنافذ في وجوه أحزاب السلطة كي لا تتنفذ مرة أخرى وتفرض علينا قوانينها الـمجانبة للصواب.

وكذا منع فرصة الكيد الخارجي باتخاذ الـمقاطعة سلاحا للتدخل الأجنبي بوصف البلد دون شرعية.

ويرى أنصار الـمقاطعة أن الدرس ينبغي أن يلقن للأحزاب الحاكمة بغضب شعبي عارم متحضر يبديه بـها.

وعلى ما يبدو ميدانيا أن نسبة الإقناع كانت من جانب أنصار الـمقاطعة بالنظر إلى النتائج.

على أن ضآلة المشاركة تعبر واقعيا عن وجود أربع فئات اجتماعية وهي :

1 / الـمشاركون : وهم الـمقتنعون إما بـمن منحوهم أصواتـهم ومنهم أحزاب الحكم، أوبضرورة غلق الباب أمام الأحزاب التي أذاقت الشعب الويل أثناء العهدة السابقة، ولذلك ظهرت أصواتـهم مفرقة على هؤلاء.

2 / الـمستـقيلون: وهم غير المبالين الذين لا يثـقون في أي شيء ويعتبرون خارج مـجال التـغطية السياسية ، لأن فكرتهم الـمسبقة هي كل شيء بـهتان لا يعدو أن يكون هراء.

الـمقاطعون: وهم الذين لهم فكرة غاشـمة عن الانتخاب وقاطعوا البرامج والوضع والشخصيات المترشحة.

ولذلك أسباب مـختلفة وما أريد التركيز عليه هو أسباب الـمقاطعة التي أراها فيما يلي:

1 / الفهم الخاطىء لدور النائب، إذ يرى عموم الشعب دوره شاملا للتشريع والنـزول الـميداني لتقديـم خدمات ولو بسيطة لأتفه الأسباب، ولقد علمت أن بعض الناس يطلبون على سبيل الـمثال من النائب التدخل في استرداد رخصة السياقة المحجوزة من سائق بسبب خطأ في الـمرور، وهذا ما يزرى بقدر النائب ذي الحصانة البرلـمانية والتمثيل الوطني للتشريع، لا لشق الطرقات كما حدث لأحدهم مطالبة نائب به وهو أمر ليس من صلاحياته.

2 / ضرب قيمة الإنسان عرض الحائط بعدم مراعاة ظروفه في التشريع للقوانين، وقد علمنا أن بعض النواب يتـفانون في التضييق عليه بالتنبيه إلى سن قوانين مـجحفة لـم ترحم جيوب الـمواطنين الغلابى كما يقول إخواننا الـمصريون.

3 / ركوب الـمترشحين عقبات كأداء لـم يقدروا عليها بعد نيل منصب النيابة، فمنهم من قدم وعودا شاقة عليه لـمنتخبيه ولـم يوف بـها ربـما لظروف الـمهمة النيابية، لكن متلقي الوعد لا يعرف إلا تنفيذه وإلا سخط على صاحبه وسحب من تحت رجليه بساط الثقة وحتى العلاقة الإنسانية، فكيف نسمع من أحدهم يعد منتخبيه أثناء الحملة الانتخابية بالاستقرار في ولاية ترشحه والمكوث بـها ثم لا يقدر عليه؟ رغم ما قد يكون قدمه على مستويات عالية. 
4 / التعاطي الخاطىء للحكومة مع الـمسألة، ومثال ذلك دعوة السيد الوزير الأول النساء إلى إجبار أزواجهن على الخروج إلى الـمراكز يوم الخميس 04 / 05 / 2017م ولو بالقوة والحرمان من فطور الصباح، ما أجج الأنفة في مشاعر الرجال وزاد من إصرار فئة أخرى انضافت إلى الـمقاطعين.

إن ما سبق كله لا يـمر دون نتائج حيث تبادل الـمقاطعون والـمشاركون التهم السببية، فمن متهم للمشارك بتزيين عرس السلطة أمام أعين الرأي العام الـمحلي والدولي، وتكريس تنفذ الأحزاب الحاكمة لزيادة التنكيل بالشعب عن طريق القوانين الـمجحفة، ولو قاطع لكان ذلك إفشالا لـمشاريعهم وردعا لهم.

ومن متهم للمقاطع بتمديد عمر الأزمة ظنا منهم أن لو انتخبوا سيصوتون عليهم .

ولذلك يحسن بنا اللف حول احتمالات أصوات الـمقاطعين التي ادعى كل مترشح وصلها به لو ظهرت:

إن كل منخرط في الـمسار الانتخابي ينسب لـهم تـهمة فقده مقعدا، والحقيقة الـمتسائلة هي من يضمن تصويتهم للمدعي إن شاركوا؟ من يضمن أن الأوراق الـملغاة كانت ستصير أصواتـها إلى الـمدعي؟

فاحتمالات أصواتـهم إن حدثت ستؤوب في تقديري إلى :

1 / انقسامها بين مـختلف الـمترشحين فالنتيجة ستكون نفسها.

2 / تصويتها لصالح موالاة السلطة، ففي هذه الحالة تعتبر الـمقاطعة خادمة للمعارضة إذ منعت السلطة من نيل أصواتـهم.

3 / التصويت لصالح الـمعارضة وهي هنا خادمة للسلطة عكس ما سبق.

4 / التصويت بالورقة الـملغاة، وهنا ستكون النتيجة نفسها، مع أنـها تعبير عن السخط على الوضع عموما، الـمعارضة والـموالاة.

ولا يـمكن لأي مترشح ادعاء أصوات الورقة الـملغاة لو نطقت لأنـها ستحمل الاحتمالات السابقة نفسها.

والذي حدث جعل الـمقاطعين يشعرون بالنصر على الوضع كله والتعبير عن السخط العام، وكذلك لا يـمكن الجزم به إذ قد يكون سلاحا ذا حدين.

لأن التصويت في حد ذاته خضع لظروف غير طبيعية ككل مرة، من تزوير وتضخيم، وفي تقديري الشخصي أن التزوير بـمعناه الحقيقي الذي هو تغيير الأصوات من مترشح لآخر لـم يحدث وليس للسلطة وأحزابـها أن يلجوا هذا النفق الـمظلم الذي جنوه على أنفسهم في أول انتخابات تعددية شهر ماي 1997م وأفقدهم الـمصداقية، وهم الذين أعلنوا تضررهم منه هذه الـمرة، والدليل هو تقديـمهم طعونا مثل الآخرين، أما ما حدث في رأيي الذي لا ألزم به أحدا هو تضخيم نسبة الـمشاركة، ومن ثـم كل الأصوات الـمضافة ستكون من نصيب مترشحين معروفين بحكم سطوة القائمين على مكاتب الاقتراع، ما تسبب في تضخيم الـمعامل الانتخابي في احتساب الـمقاعد الـمحصل عليها إذ تضرر منه من لـم تضخم لهم الأصوات.  
ولذلك يحق لنا أن نتساءل ما إذا كان هذا العمل لأجل توازنات معتبرة داخليا وخارجيا أوتصرفا معزولا؟ هذا ما يتكفل الزمن بالإجابة عليه، لأن حقائق التاريخ قد لا تعرف إلا بعد مدة ليست باليسيرة.

ومع ذلك كله فإنني أعتبر النسبة النحيفة للمشاركة هذه الـمرة سلاحا ذا حدود:

1 / تعبير عن الحرية الحقيقية والوعي الثاقب في حق الانتخاب، إذ تكرست القاعدة الدستورية الناطقة بأن الانتخاب حق لا واجب، وأن مختلف الإشهارات في شتى أجهزة الإعلام كانت تخلط بين الواجب والحق، فهما لا يلتقيان في تصرف واحد إلا النـزر اليسير وليس الانتخاب منه.

2 / تكريس الديـمقراطية العالـمية، {وإن كان الغرب لا يريدها لنا} التي لا تكترث بالنسب الـمرتفعة بل وتعتبر الشرعية مستمدة من الناخبين الحقيقيين ولو كانوا خـمسا وثلاثين بالـمائة من مـجموع الـمسجلين، وهذا ما كنت قلته للسيد رئيس دائرة البرواقية من ولاية الـمدية الـمحترم.

مع اعترافي بأن ذلك معتبر في دول تدار بـمؤسسات ومراكز دراسات لا تـميل بـها أهواء الأحزاب الحاكمة، وغالبها متـفقة على طبيعة النظام الـمسير للبلد لا كما يوجد عندنا اختلاف على طبيعة النظام الـمفترض العيش تحت ظلاله.

3 / مـخرج غير منتظر للسلطة بتحييد كتلة شعبية كبيرة عوض الوقوف ضد مشاريعها.

4 / تكريس انعدام الثـقة في السلطة والأحزاب، فهي تعبير ميداني ثـقيل ضد هؤلاء على الـمستوى الـمحلي والدولي، فلا يـمكن لأي كتلة فائزة، بادعاء الشرعية في مثل هذه النتائج، وتـمرير مشاريعها دون مضض إذا كلفت بتشكيل الحكومة.

إن الخروج من هذا الـمأزق الشرعي والشعبي يكمن برأيي في:

1 / تنظيم استـفتاء عام حر ونزيه دون تزوير ولا تضخيم حول طبيعة النظام المستهدف المرغوب فيه من قبل الشعب.

2 / الاعتبار من هذه الانتخابات بعدم الإرغام والتحسيس الضاغط مع منح الشعب حريته عله يتجه إلى صناديق الاقتراع بانعتاق كامل يشعر أنه منشؤه.

3 / رجوع السلطة إلى الهدي العاقل بالخدمة الفعلية للشعب واعتبار قيمة الإنسان.

4 / تسقيف حد أدنى لأجور النواب إذ نسبة معتبرة من الـمقاطعين بررت تصرفها بأفراد صلون إلى المجالس النيابية لأجل الـمال والصفقات بدليل إنفاق الكثير من المترشحين أموالا زاخرة نظير الحصول على أضعافها بعد الجلوس على مقعده، وقد كنت نبهت إلى هذا بـمقال عنوانه الانتخابات وثقافة المال {الشكارة}.

5 / التنبيه إلى حقيقة مهام النائب كي لا يحصل الغرور بـما هو موهوم.

6 / إعراض الـمترشحين عن تقديـم وعود للناخبين ثم النكوص عنها.

7 / تقديـم النواب مـحصلات مهامهم على الـمستوى الوطني والـمحلي لناخبيهم كل سنة على الأقل طمأنة لهم على مصير أصواتـهم.

8 / إعادة النظر في طبيعة التصويت باعتماد التصويت على فرديات المترشحين عوض القائمة كلها، بالتأشير على المرشح الـمراد من القائمة الـمنتخب عليها، وبذلك لن يتهافت الناس على رؤوس القوائم لأنه قد يفوز الأخير أوالأوسط أوغيره بالـمنصب.

9 / إعادة النظر في طبيعة الناخب بتشريع قانون يـمنح حق التصويت للطبقة الـمثقفة الحاصلة على شهادات من درجات معينة فأكثر كفرض شهادة الليسانس أوالسنة الثالثة ثانوي على الأقل، واعتبارهم مفوضين عن غيرهم بسبب قلة أوعدم العلم فيهم، حينها سيكون التصويت عن وعي تام واختيار منطقي على الأغلب الأعم، غير عاطفي أووهمي كما يقع لكثير من الشيوخ والعجايز الذين سمعت من أحدهم قوله {جئت أنتخب على الأحزاب}، وهذه عبارة يفهم منها عدم علمه بـما يـجري، لأن التشريع مهمة العارف بالقانون وقواعده فكذلك اختيار النائب أراه مهمة العارف به كذلك، بحكم أنه من يفوضه عن نفسه.

إن الصدق في خدمة البلد يقتضي النظر الدقيق في كل ما أسلفت والاعتبار منه والاتعاظ به ولو باستهلاك أوقات التـفكير الحصيف والاستعانة بالخبرات والكفاءات الـعالـمة للخروج بالبلد من أزمة الشرعية التي يتبادل بـها الأطراف المتنازعة التهم والقذائف.