من وحي سورة الكهف 19

مقارنة ومقابلة. ج1

بقلم / خلف سرحان القرشي

......................

من المعروف أن سورة الكهف من سور القرآن الكريم الأُوَل التي نزلت بمكة المكرمة. قال عنها الصحابي الجليل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: (هي من العِتَاق الأُُوَل).

نزلت والمسلمون قلة مستضعفون، تسوم قريش بعضهم سوء العذاب مثل بلال بن رباح، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وأباه وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.

فماذا أحدثت فيهم ولهم هذه السورة توجيها وعزاء وسلوى، وماذا أيقظت في أعماقهم من بشائر وآمال؟ وفي الوقت نفسه ماالرسالة التي حملتها لأعدائهم اللدودين؛ كفار قريش آنذاك، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدهم بالقرآن الكريم جهادا كبيرا.

بدأت السورة بحمد الله على إنزاله الكتاب القيم غير ذي العوج، المبشر والمنذر.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا. قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا. مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا. وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)

وأولئك النفر المؤمنون الأول القليل المستضعفون هم من نال شرف التلقي الأول، وريادة الحمل، ومسؤولية التفعيل.

وأي عزاء أعظم من أن يقول لهم رب العالمين إني اخترتكم حاملين لكتابي العظيم، ومبلغين لما فيه من الآيات والهَدْيِ والهُدَى؟

حتما سيرتفع مستوى الطاقة عندهم، وتزداد قدرتهم على التحمل والصبر، ويتنامى يقينهم بالله عز وجل بالظفر والتمكين، وسيعلمون حق العلم إن غدا لناظره قريب، وأن فرج الله لامحالة آتٍ.

أما كفار قريش فمن المؤكد أن لفظتي (كتاب)، و(أنزل)، كانت تفزعهما كثيرا، لأنهم يعلمون أن الكتب السماوية - عطفا على ماكان يتنامى إلى أسماعهم من أهل الكتاب؛ اليهود في المدينة، وبعض نصارى العرب في شبه الجزيرة العربية- تشكل تهديدا بل نهاية للوثنية التي يقتاتون منها وعليها.

ويعلمون أيضا أن هذا الكتاب سيكون المرجع والمصدر للأحكام والتقاضي فيما بينهم بين، وفيما بينهم وبين غيرهم أيضا، وهم الذين كانوا يفضلون الاجتماع في (دار الندوة) كلما اقتضى الأمر إصدار حكم، وكان الحكم يفصل حينها تبعا لمكانة المُدَعِي والمُدَعَى عليه؛ الاجتماعية والمالية.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :(..... أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ ، ثُمَّ قَامَ ، فَاخْتَطَبَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا).

قريش في أحكامها القضائية، لم تكن تختلف كثيرا عن أولئك الذين أهلكهم الله بظلمهم في التمييز بين المتداعين.

وكانت قريش تخشى كثيرا من كثير مما يدعو إليه هذا الكتاب الحكيم من عدل وسواسية، ومن معايير جديدة وضعها لمفاهيم العزة والكرامة المتمثلة في (كلكم لآدم وأدم من تراب)، و(إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

وقد بلغهم أن سورة الكهف هذه تنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعطاء الملأ القرشي أولوية أو أهمية على أولئك النفر البسطاء حتى ولو بغرض دعوتهم إلى الدين. قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).

ومن ثم أتت قصة أصحاب الكهف، وهم بضع فتيان آمنوا بالله عز وجل، وحاربهم قومهم الوثنيون،

ونالوا منهم، وأصبحت حياتهم في خطر، فقرروا اعتزال قومهم، سائلين الله وحده العون والرشاد، فكان لهم ما أرادوا.

ما أشبه الليلة بالبارحة كما تقول العرب، وما أشبه المؤمنون المستضعفون آنذاك بفتية الكهف، وما أشبه قومهم الوثنيون بكفار قريش.

وكأن السورة الكريمة تقول للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه آنذاك: ستكون لكم الغلبة والعزة، وسيحميكم الله مثل مافعل مع أصحاب الكهف لأنكم مثلهم على حق عظيم وهو (التوحيد)، وقومكم مثل قومهم على باطل فظيع وهو (الشرك).

ولكن هل سيعتزل هؤلاء الفتية قومهم؟

ربما أن هجرة المسلمين سرا إلى الحبشة بادئ الأمر، وإلى المدينة فيما بعد هي أمر موازٍ ومقابل لإيواء فتية الكهف إلى كهفهم بعد أن اعتزلوا قومهم.

قد تتشابه القصص وتتقاطع في بعض مفاصلها، ولكنها تختلف في مفاصل أخرى وفقا للزمان والمكان، وتبعا لطبيعة الناس والمتغيرات والظروف.

ثمة تشابه في قصة أهل الكهف مع قصة المسلمين الأوائل في البداية، وفي النهاية مع اختلاف في مجريات الأحداث في القصتين.

فتية الكهف اعتزلوا قومهم فرارا بدينهم، فأنزل الله سكينته عليهم، وضرب على آذانهم في الكهف سنين عددا.

لم يُكَلَفْ أولئك الفتية بهداية قومهم، ولا بحمل رسالة من السماء لقومهم وغيرهم، مثل ماهو الحال مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه، ولهذا فلم تكن المعجزة الممنوحة للمؤمنين الأوائل متمثلة في نومة طويلة مثل نومة أهل الكهف، بل كانت المعجزة الممنوحة لهم هي العكس تماما، وأعني بذلك يقظة تامة، وحياة فاعلة ثرية صنعوها بهدي القرآن الكريم، وكانت يثرب (طيبة الطيبة) هي النموذج الأمثل لها.

رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، ومحمد رسول الله آخر الأنبياء، والقرآن الكريم خاتم الكتب السماوية، وكل هذه الجوانب تقتضي أن تكون المعجزة من الداخل، وليس من الخارج كما هو الحال في معجزة فتيان الكهف.

فتيان الكهف اعتزلوا قومهم ليبقوا هم على دينهم، ولينجو بأنفسهم فقط: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).

أما المسلمون الأوائل فاعتزلوا قومهم مرحليا، لِيُكَوِنِو لَبِنَات الحضارة الأولى للمجتمع المسلم في المدينة المنورة؛ الأرضية الأنسب، وليعودوا إلى مكة المكرمة فيما بعد أقوياء أعزة فاتحين، منتصرين متسامحين متواضعين.

(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا).

(لقد أصبح ملك إبن أخيك اليوم عظيما). هذا ماقاله أبو سفيان رضي الله عنه للعباس بن عبدالمطلب يوم الفتح، وهي العبارة البشرية التي لخصت بصدق ماوصل إليه المسلمون حينها من عزة ورفعة وسؤدد.

أما عظمة أهل الكهف فكانت صورة ختامها: (وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتية لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا).

وشتان بين النهايتين وفي كل عظمة.

ولئن كان كفار قريش كما تذكر الرواية قد سألوا عن فتية الكهف تعجيزا للرسول صلى الله عليه وسلم بناء على مقترح من اليهود، فإن السورة لم تجبهم عما سألوا عنه فحسب، بل لفتت نظرهم بشكل أو بآخر أن النصر والعون والمدد والرحمة التي منحت من لدنه عز وجل لفتية الكهف، فإنها قاب قوسين أو أدنى لتمنح لهؤلاء المستضعفين (المسلمون الأوائل) الذين تتفنون في إيذائهم الآن.

وبالفعل حدثت معجزة ربانية وبشرية، وأظهر الله دينه، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وجاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، ودخل الناس في دين الله أفواجا.

والملأ القرشي الذين كذبوا وأذوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين قتل منهم من قتل في المعارك، وأسلم منهم من أسلم، وانضووا تحت راية (لاإله إلا الله محمد رسول الله).

وثاني قصة من قصص السورة هي قصة صاحبي الجنتين؛ الكافر والمؤمن.

ألا يُذَكِرُ صاحب الجنة الكافر الذي أوتي مالا كثيرا، ببعض من الملأ القرشي الذي أوتي - رغم كفره- مالا وولدا؟ الوليد بن المغيرة نموذجا.

قال تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا).

أما صاحب الجنة المؤمن فَيُذَكِرُنا كما ذَكَّرَ الصحابة رضوان الله عليهم ببعض المؤمنين ذوي المال كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

ويقول لهم القرآن الكريم في هذه السورة الكريمة وغيرها أن المال الذي تملكون يامعشر قريش، وعليه تعولون قد يذهب فجأة من بين أيديكم إلى غير رجعة، مثل ماحدث لصاحب الجنة الكافر. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا). فالمال من غير إيمان بِمُعْطِيهِ الواحد الأحد، هو مال في مهب الريح، ليس له مايحرسه، ويحميه.

قريش كانت تقدس المال، ومن أجله أقامت الإيلاف لضمان سلامة قوافلهم ذهابا وإيابا، وضمانا لقدوم الزوار والحجاج للبيت العتيق، وهي السياحة الدينية التي كانت تُدِرُ عليهم مالا وعلاقات وجاه.

غير أن قريش لم تكن معنية بمصادر المال، ولا بطرق انفاقه.

لايهم أن يأتي من بيوع محرمة، أو من ميسر وقمار، أو من وضع الأوثان والأصنام حول الكعبة المشرفة، ولا يهم عندهم أن يأتي المال من المتاجرة بالإنسان من خلال بيع وشراء العبيد والاماء، وتوظيف بعض المغلوبات على أمرهن في البغاء والدعارة.

ولايهمهم أيضا كيف ماانفقوه وأحيانا كثيرة يكون على الشراب، وبيوت الرايات الحمراء، وفي التفاخر الأجوف؛ (الهياط) بلغة اليوم.

وللانصاف نقول أنهم كانوا يقومون بدفع بعض المال في وجوه خيرة، ومجالات حسنة كالسدانة والسقاية والرفادة والوفادة. ولكن ذلك استثناء يثبت القاعدة ولاينفيها.

إن وفرة المال في أيدي قريش، و السهولة التي كان يأتيهم بها دونما كثير جهد أو مشقة كانت مدعاة لطغيانهم، ولحياة سطحية منعمة مترفة - شعارها اللحظة التي هم فيها - تخلو من عمارة الأرض، ومن القيام بواجب وحق الاستخلاف.

وطالما الحالة هذه، فهم ليسووا ببعيد في أن يصيبهم مثل ماأصاب قوم (سبأ) فثمة قواسم مشتركة تتمثل في الاشراك بالله، وفي الطغيان.

الأمر الذي يفصله لهم القرآن الكريم في موضع آخر: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ. فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ. ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).

في الحلقة القادمة إن شاء سنكمل الحديث عن هذا المحور مركزين على قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح / الخضر، وقصة ذي القرنين.

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، والحمد لله رب العالمين.

...........

للاطلاع على الحلقات السابقة يرجى اتباع الرابط التالي:

https://oktob.io/qkhalaf

...............