س.لماذا يكره أكثر الطلبة النحو، هل هو بهذه الصعوبة؟!

ج.لا أُنكِر أنَّ في النَّحو مقدارًا من العُسرِ، والاعتياصِ، ولكنَّ هذه طبيعةُ كلِّ عِلمٍ محكَمِ الصَّنعةِ مُداخَلِ الخلقِ شديدِ الأسرِ. وذلك أنه قد ناءَ بوضعِ علم النحو خواصُّ العلماء الموسومون بالذّكاءِ، والفِطنةِ، القارحِو البصيرةِ كالخليلِ بن أحمدَ الذي لم يكن بعدَ الصّحابةِ أذكَى منه، وسيبويهِ الذي أمسى يُعدُّ كتابه في النَّحو من مفاخرِ العلومِ كلِّها.

ثمَّ إنَّهم حينَ وضعُوه لم يكن غرضُهم من ذلك إفهامَ غثراءِ الناس، وغوغائِهم من مّن يستثقلون كدَّ النظرِ، وتستحسِرُ أذهانُهم عن كُلفةِ التفهُّم، وإنّما وضعُوه لنظرائِهم من أهلِ العِلم، وذوي العقولِ القابلةِ للتعلّم. بل ربَّما تعمّدَ بعضُهم الإعناتَ، والتعسيرَ ليَظلَّ الناسُ محتاجينَ إليهِ مفتقرين إلى عِلْمِه كالذي رَواه الجاحظُ عن أبي الحسن الأخفشِ. وقد ذكرَ سعيد الفارقيُّ (ت391 هـ) أن المُبرِّد إنما جعلَ المسائل المُشكلة في صدر كتابه (المقتضَب) (ليصونَه بها عن ابتذالِ مَن لم تبلغ طبقتُه قراءة مثلِه، ويَحوطَه فيها من تلاعب من قصرت رتبتُه عن التشاغل بشَكلِه... فرأى أن يُقدِّم في كتابه مسائلَ تصدّ من قصد له عن التعرُّض له إلا بعد إحكام أصولِها مِن سواه، وإتقانِ أبوابِها في ما عداه).
وقد كانَ عملُهم هذا سديدًا صائبًا لأنّهم لو شذَّبوا النَّحو، وتخوَّنوه بالحذفِ، والتسهيلِ مجاراةً لأفهامِ العامَّةِ، لعادَ هذا على بنائِه بالتقوُّضِ، وعلى نَسجه بالهَلهلةِ، ولخَرج رِخوًا رذْلًا لا يصمُد على وجه الدهر . ويجبُ أن يبقَى ذلك كذلك، وأن لَّا يدعَ المختصُّون فيه بعضَ ما هو مِنه، وتضيقَ به صدورُهم إذعانًا لرغباتِ الناس، ونزولًا عند حُكمهم.

ولكن النّحاةَ لم ينشبوا أن حملَهم استصلاحُ أمرِ العامَّة، وغيرِ المختصَّين على أن وضعوا لهم نحوًا تعليميًّا يلائِمهم، وجعَلوه وفَقًا لحاجاتِهم لا يشِفُّ عليها، ولا يقصُرُ دونَها. وهذا منهَج حسنٌ، ولكن على أن يبقَى النَّحو كما هو بأبوابِه، وشواهِده، وخلافاتِه، وعللِه تامًّا موفَّرًا للمختصِّين. ويكون لغير المختصِّين نحوٌ مهذَّبٌ ميسَّرٌ صالحٌ لهم.

علَى أنَّ هذا النَّحوَ التعليميَّ لا يعرَى من آفاتٍ، وهَناتٍ في طريقةِ تدريسِه. ومن أهمِّها في رأيي اثنتان:

الأولى: إغراقُ الطُّلابِ بتفاصيل النّحو، وفضول مسائلِه التي قلّما يحتاجون إليها في كلامِهم، ومخاطباتِهم، فيلتبسُ عليهم المهمُّ بغيرِه، ويتداخلُ الأصلُ، والفرعُ، فلا يَلبثون بعد مُديدةٍ أن يَنسوا الأصلَ، والفرعَ، أو ينسوا بعضَ الأصلِ، وبعضَ الفرعِ. وربما ثبتَ في صدورِهم الفرعُ، وسقطَ الأصلُ. وهذا أطمُّ، قال ابن المقفّع: (فإن كثيرًا من الناس يطلبون الفصول مع إضاعة الأصول، فلا يكون دركهم دركًا). ومتَى أرَّبَ الأستاذ على الأصلِ، وأدمن تَكرارَه، وإعادتَه، بقيَ في ذهنِ الطالبِ، فلا يضُرُّه بعد ذلك أن يذهبَ عليه ضبطُ بعضِ الفروعِ، أو نسيانها.

الثانية: قِلَّة التطبيقِ. وهذا خلَلٌ مستفحِلٌ، فكثيرٌ من مدرِّسي النّحو يُلقون إلى الطلابِ بالمسائلِ مجرَّدةً من وسائلِ تطبيقِها، فلا يقعُ في يدِ الطالبِ من النحو إلا حفظُ هذه المسائلِ، ولا يعرفُ كيفَ يستفيدُ منها، ويقومُ بينَه، وبينها حجازٌ منصوبٌ من الوحشةِ، والهَيبةِ، فإذا تكلَّم، أو كتبَ، لحنَ ما شاءَ أن يلحنَ. ولعلَّك لو فاتشتَه لوجدتَّه حافظًا لبعضِ المسائلِ التي من شأنِها أن تعصِمه من ذلك! والنَّحو مَلَكةٌ. ولا تستوي للطالبِ حتَّى يُكثِر من المِرانِ، والدُّربةِ، ويقشَع عنه غيايَة الخوفِ من المحاولةِ، ووهْم العَجز عن الفَهم، وحتَّى يعانيَ مزاولةَ النصوص المتفاوتةِ من الكلامِ العربيِّ، ويُدفَعَ إلى مضايقِها. وما الذي يَمنع الأستاذ إذا فرغَ من درسِ الأسماء الستّة مثَلًا من أن يكلِّف كلّ طالبٍ من طُلّابِه بإحضار ثلاثة أمثلةٍ للأسماء الستة من القرآن في الدرس القادم، ويناقشهم فيها؟ وما الذي يَمنعُه أيضًا من أن يتلوَ عليهم قِصَّة ممتعةً، أو يُنشِدَهم قصيدةً متخيَّرةً، ويطلبَ منهم أن يقيِّدوا ما يمرُّ بهم من الأفعال الخمسة، أو الضمائر، أو جمع المذكر السالمِ، أو نائب الفاعلِ، ويبيِّن لهم أخطاءَهم فيها؟
فمثلُ هذه الطريقةِ في التعليمِ خليقةٌ أن تقرِّب النحو إلى الطُلّاب، وتحبِّبه إليهم، وتباعدَ عنهم صعوبتَه، وعُسرَه.