في كتاب "دين الإنسان " يشرح فراس السواح الأنتربولوجي السوري كيف فهم الناس قولة ماركس :" الدين أفيون الشعوب" فهمًا سياسيًا موجهًا سطحيًا ومفصولًا عن سياقه ، حتى صارت شعارًا سياسيًا لبعض الأحزاب التي حاولت فصل الإنسان عن الممارسة الدينية فصلا تامًا ، فالجملة في نظره لا تخرج عن سياق حديث كارل ماركس عن مأسسة الدين ليصبح أداة فاعلة في الإخضاع الطبقي والتبرير المجحف للاستغلال :

" والحقيقة أن ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تديّن الناس، على تسييس الدين واستخدامه أداة ضغط وتسلط ، سواء من قبل السلطة الزمنية، أم من قبل أي شريحة أو فئة تجعل من نفسها قيما على دين الناس ومرجعا أعلى لتفسيره والعمل بموجبه" ص 40.

وهو في قراءته هذه ينطلق من أسس منهجية في رؤيته الخاصة للدين ، الرؤية التي تتشبع بمقولات أنتربولوجية ، على ضوئها يُنظر إلى الدين في ثلاثة مستويات :

المستوى الفردي : أي الدين " كخبرات فردية يعانيها الإنسان في أعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين" ص30

المستوى الجمعي : حين تتحول التجارب الفردية والمكابدات المنعزلة إلى خبرات جماعية يتشاركها الأفراد من خلال توحيد تلك الخبرات رموزا مشتركة في الفكر واللغة . وهنا تتحول التجارب إلى مستوى المُعتقد .

المؤســـســة الــــديـــنـيـــة : وفي هذا المستوى يقع الارتباك والخلط بين السلطات التي تدّعي امتلاك الشأن الديني وتتكلم باسمه وبين الدين نفسه صافيًا نقيًا من أي سلطة بشرية أو مرجعية مؤسساتية ، فعلى هذا المستوى " يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها ، إلى درجة تبعث على التشويش ، وتؤدي إلى نتائج مفجعة في بعض الأحيان " 40

ويوظف فراس السواح نتائج تنقيبية في أشكال التدين القديمة بدء من العصر الحجري الجديد (النيوليتي)، وصولا إلى العصر الزراعي ليؤكد أن الدين لم يكن مرتبطًا بالهيكل أو المؤسسة ، بل أصبح كذلك بدءًا من العصور التاريخية ولعل المدافن والمقابر القديمة تؤكد الأمر ، ذلك أن القبور التي كانت تضم الأسلحة والأدوات الشخصية أكدت أن مناصب الملوك ورجال الدولة والدين لم تكن تعطى أي اهتمام أو تقديس ، فهم يدفنون في قبور بسيطة وكان الناس يتخلون عنهم بمجرد انقضاء الحاجة إليهم .

وعلى ضوء تلك النتائج البحثية يفهم فراس السواح قولة: "الدين أفيون الشعوب" كنقد ماركسي لعملية مأسسة الدين وجعله واسطة بين السلطة والثروة وآلية للقهر والتمييز بين الناس ، فالمستويات الثلاث ( المستوى الفردي للدين – المستوى الجمعي – مستوى المؤسسة الدينية) تختلف من حيث طبيعتها ولا يجب أن نخلط بينها ، فالدين ليس هو المؤسسة الدينية (الكنيسة مثلا أو بلاط الإمامة أو الكهنوت الفقهي) ومن ثمة فنقد ماركس ليس نقدا مباشرا للدين بقدر ما كان نقدا لأحد أشكال استغلال الدين ، ولعل فهم بعض "المتحزبين" لهذه القولة وتوظيفهم لها لأغراض نقد النزعة الدينية عمومًا ، توجه سطحي غائي لا يخص الدين في شيء.

يؤكد هذا الكلام ما كتبه ماركس نفسه في مخطوطات 1844، حيث تحدث عن ما أسماه "الأشكال العليا للوعي"، وضمنها : الفلسفة والدين والفن .

لا تخضع الأشكال العليا للوعي للعلاقة الميكانيكية بين البنية التحتية (بنية الاقتصاد وعلاقات الإنتاج) والبنية الفوقية ( المعطيات الثقافية)، حيث لا يصنع الواقع الاجتماعي الوعي الديني أو الفني أو الفلسفي بشكل عكسي مباشر ، بل هناك بعض عناصر الواقع التي تؤسس فهمه ، وهناك الخصوصية النفسية المتأصلة في الذات البشرية بمعزل عن العوامل الموضوعية . هذا الرأي الماركسي أتى لاحقًا على رأي ماركس الشاب ، الذي اعتبر الدين "زفرة المخلوقات المعذبة" بناء على التحليل المادي للدين ، أي ربطه بالواقع الاجتماعي مباشرة ، ولعل الموقف اللينيني من المسألة الدينية كان واعيًا تمامًا لخصوصية الدين في النظام الثقافي العام للشعوب ، وهو ما تأكد من كتاباته حول القضية الدينية ، وتأسيسه لممارسة دينية متسامحة بالرغم من التاريخ غير النظيف للمؤسسة الكنسية ، لكن الموقف الستاليني بقي في مستوى التحليل الأول من المسألة الدينية ولم يتابع الطرح الماركسي حتى نهايته ، وهو ما أدى في النهاية إلى شيوع فهم سطحي عن التصور الماكسي نفسه انطلاقا من أخطاء ستالين في تدبير المسألة .