لا يمكن، وفق المعطيات الحالية، التحاور مع إيران، إلا أن الحرب معها ليست حرباً وجودية، لا تنتهي إلا بسحق طرفٍ الطرف الآخر، فهي، وإن كانت عقائدية، في لغتها وأدواتها، إلا أنها حرب جيوسياسية في النهاية، تهدف إلى مد النفوذ والهيمنة.
هناك تناقضاتٌ في بنية النظام الإيراني الحالي، وبنية أنظمة الخليج، يعقّد سبل التحاور والتوافق. فالثورة الإيرانية قامت ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، رجل الولايات المتحدة في المنطقة، لترفع شعارات "الموت للشيطان الأكبر"، بينما كانت معظم دول الخليج تحت الانتداب البريطاني تاريخياً، ودخلت بعد استقلالها في تحالفاتٍ مع الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة.
هذا التناقض البنيوي جعل التواصل بين الطرفين، على أرضية مشتركة، محالا. وما زاد الأمر تعقيدا، أن النظام الإيراني ثوري وطائفي. ثوري بمعنى السعي إلى تغيير الأوضاع القائمة، وطائفي ببنيته، وأدوات تمدّده. ولم تكن طائفية نظام طهران، وعقائديته، لتصبح مشكلةً لجيران إيران، لو جُرّدت من طموحات الهيمنة والتمدّد. ستكون وقتها مشكلةً داخليةً إيرانية، تتعلق بالاستبداد، وحقوق الأقليات الدينية والمذهبية.
في كتابه "الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988: قراءة تحليلية مقارنة"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يذكر الباحث العراقي والعسكري السابق، عبد الوهاب القصّاب، عدة أهداف عراقية لخوض الحرب مع إيران. يذكر منها "إيقاف مد تصدير الثورة" و"إسقاط اتفاقية الجزائر" و"استعادة أراضٍ عراقية اعترفت اتفاقية 1975 بعائديتها إلى العراق"، ولم يُعِدها نظام الشاه إلى بغداد، ورفض الخميني إعادتها بعد الثورة، إضافة إلى "إضعاف حكم الملالي في إيران"، ومحاولة إبعاد "التأثير السلبي لنظام الخميني على شيعة العراق والخليج العربي". تتعلق كل هذه الأسباب بالتمدّد والهيمنة بصورة أو بأخرى.
كان من الممكن، نظرياً، إيجاد تقاربٍ مع إيران، بعد تجرّع الخميني السم، وتدمير قدرات إيران العسكرية في 1988، بعد تحرير العراق أراضيه المحتلة، وتطبيق إيران اتفاقية الجزائر التي لم تطبق سابقاً.
حدث هذا التقارب، وشهدت المنطقة انفتاحاً إيرانياً على الخليج في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الأوضاع السياسية تحوّلت بشدة بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وفرض إيران هيمنتها على العراق، من خلال الأحزاب السياسية الطائفية الشيعية الموالية لها. فعّل هذا التحول من جديد أحلام إيران بتصدير الثورة، التمدّد والهيمنة، والتي ذوت على وقع هزيمتها في 1988.
لم تكن للنظام العراقي آنذاك أوهام حول رغبة الخميني في تثوير الشيعة في العراق. ووجّه الخميني، بحسب القصاب، برقية إلى محمد باقر الصدر، يطلب منه "التهيؤ لقيادة الثورة الإسلامية في العراق". علاوة على تعامل نظام الثورة في إيران بشكل غير لائق مع محاولات القيادة العراقية التواصل مع طهران. ما حدث بعد 2003 يجدّد تأكيد التمسّك الإيراني بـ "تصدير الثورة" تحت لافتة "دعم الشعوب المستضعفة".
تبدو الأوضاع الاستراتيجية مختلفة اليوم، فالدرس الذي تعلّمته إيران من الحرب العراقية يتلخص في نقل معاركها إلى الدول العربية، حتى لا تضطر إلى الدفاع عن أراضيها، فعمدت إلى إيجاد مليشيات موالية لها في العراق ولبنان وسورية، وحاولت مد هذه التجربة إلى اليمن، والذي استخدمته ورقة ضغط على الخليج، أكثر من اعتبار الهيمنة على اليمن أمراً وارداً.
لا يوجد ما يجعل الحوار ممكناً اليوم مع طهران، فالدول العربية في أوج ضعفها، والمنطقة باتت مسرحاً لتنافس أميركي - روسي يشبه التقاسم الفرنسي - البريطاني قبل مائة عام. ويبدو أن مفتاح الحل لإجبار إيران على التراجع، هو شقّ صف الإسلام السياسي الشيعي في العراق، لتصبح الخلافات شيعية - شيعية، بدلا من الدخول في محاور طائفية، وهذا ممكن. إضافة إلى سحب سورية من المعادلة الإيرانية. بهذا فقط، يمكن أن يتحاور العرب مع طهران، وتصبح العلاقات العربية - الإيرانية علاقة تجاور.
(العربي الجديد)
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/5/3/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-1#sthash.SLUEg1fR.dpuf