Image title


في يومٍ ارهقني فيه التعب، أوصلت فيه من شروق شمس ربها كل ذي توصيلةٍ، و اوصلتني بعدها الى الجامعة الميؤوس منها،  و عدت فجئت بكل من راح من أهل التوصيلة ... مرتين، شمالان و جنوبان.

ما كنت قد شرعت في طي جفوني طمعاً في سُقيةٍ من راحة حتى أُمرت بشطب قائمة المقاضي، فاخذتني الى البقالة و ... دخلت.

لاحظتها مزدحمةً أكثر من العادة، ناس يجيؤن و ناسٌ يروحون، و من فرط ارهاقي كنت امسك قائمة المقاضي و استعصي قراءة مافيها، لأنها كتبت بالإنجليزي الإندونوسي ( Aish Tst, Aish samoli, Nutila, haleeb maraai ) فأنظر حولي متهرباً من الإرهاق اللغوي الذي يصيبني عندما احاول قرأتها.

لمحت على منضدة المحاسبة بنتاً و مربيتها، و امام البنت انصاف ريالاتٍ متناثرة على الطاولة.

سمعت المحاسب يقول و هو ينظر الى القروش المبعثرة :

ما يمشي هادا ... ما يمشي!

ابدت البنت الصغيرة قلقاً من ردة فعل البائع ... كانت تطول نصفي و كان جسمها اقرب الى الربربة و الإمتلاء من الرشاقة، و كانت تردي عباءة تكاد تظهر جميع طيات بطنها ... اشفقت على البنت الصغيرة فأنا اعرف تماماً حماس الأطفال عندما يفعلون شيئاً جديداً ... و ان لم اخطىء فقد اسشفيت ان البنية الصغيرة كانت قد جمعت هذه القروش واحدة تلو الأخرى، و كانت تنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي تصبح فيه قيمة أنصاف الريالات مجموعةً تستحق رحلة الى البقالة، كي تشتري ما يسمن و يغني من جوع ... و استشعرت ايضاً هالةً من الحماس الطفولي تتغشى الطفلة لاستبدال ثروتها القِرشية بأكوامٍ من الحلويات .... و استشعرت ايضاً هذه الحماس يُخمد بعنف بقول البائع :

ما يمشي هادا، ما يمشي

نظرت الطفلة الى مربيتها باستعجابٍ و استنكارٍ و قلقٍ و قالت :

I don't why he doesn't want to take it

شوحت المربية بيدها دلالة على انكارها و تأسفها استعجاباً ... خطر في قلبي لحظة إذ ان أقول للبائع أن هذه القروش مال سواء شاء ام ابى، فهذه نقود صرفتها الحكومة بموجب التداول رغماً عن انفك، متفرقة كانت أم مجموعة، بُغيةً في جبر خاطر الطفلة، لكن تعبي منعني من ان اتكلم او ان ارافع عن البنية الغلبانة ... وقفت بقرب الحدث احاول ان استرق الحديث و ان اجس نبض الموقف حتى شعرت انني اقتربت قرباً يجعلني في محل شبهةٍ بتحرش الطفلة ... استرجعت افكاري و نظمت خطواتي و امسكت الورقة المكتوبة بالإنجلدوسية و رحت اجوب الرفوف و الحواري استبضع منها ما طُلب.

في حواري البقالة الضيقة اعاق مروري شابٌ في مقتبل العشرينات، اذ وقف يتفحص علب السيريلاك بعناية شديدة، مانعاً مروري الى الشق الأخر من البقالة، و غير ملاحظٍ لوجودي ... حاولت انا ازلق يدي من تحت يده حتى يتنبه بوجود شخصٍ تعيقه وقفته، فانتبه و اُحرج قليلاً و اعتذر بأدبٍ شديد و نادى بدنه الى الوراء حتى استطيع المرور ... مررت و استدبرت الشاب و امضيت في رحلة ترجمة اللغات مرة أخرى.

امتلأت أياديَّ من كثرة الأغراض، فرددت نفسي الى منضدة الكاشير كي اضعها و اكمل رحلتي الترجمانية ... و اذا بي اُفاجئ بأن البائع لم يرق لبرأة البنية الصغيرة، و انه ما زال يجادلها بما يمشي و ما لا يمشي ... ما ان وضعت أغراضي أمام الكاشير حتى سمعت صوت الشاب يعاتب البائع بنبرة شرسة :

لا يمشي! ليش ما يمشي؟! هادي فلوس من الحكومة! زيها زي الورق!

توسعت حدقتاي و انقشع التعب عن بالي، و تعجبت بفجعةٍ قول الشاب ... فوالله ما قال لم يكن الا ما كنت اريد ان اقول .. و ما هو الا والله ما وقع في قلبي حين سمعت الجدال ... عجيبٌ كيف ان لنا عقلان مختلفان يتوصلان الى نفس النقطة ... أما فواحدٌ تجرأ و واحدٌ تجبّن، استدبرت الشاب و البائع و البنت و الخادمة و رحت امشي في حواري البقال اصطاد ما تبقى ... كنت و انا امشي في البقالة منتشياً حد الفناء ان شخصاً فعل ما اردت ان افعل، و قال ما اردت ان اقول بالحرف و التشكيل ... و رأيت نفسي في ذلك الشاب بعد سنين و انتشيت لهذه الرؤيا ... فمن أحب الشخصيات الى قلبي تلك كثيرة المزاح، خفيفة المجلس و مرحة الحضور، إنما شديدة التعصب للحق، فما إن يطرح موضوع الحق فيه بيان حتى يتعصب و يتجهّل و يتعنف في الحوار و الألفاظ و النبرة و الأسلوب، شخصياتٌ لا ترضى الظلم لا ظاهراً ولا باطناً، ولا تلقي لذي سلطانٍ شأن لو كان صاحب مظلمة، إنما تصّف جنوداً الله مع الحق المبين. شخصياتٌ من فرط حرصها على العدل، تختل موازين الأدب لديها من شدة انفعالهم على الباطل، و تلك شخصياتٌ اتمنى لو تجمعني الصدفة بهم يوماً.

١ مارس ٢٠١٧، جدة، السعودية.