من وحي سورة الكهف 18
(القدوة والنمذجة)
بقلم / خلف سرحان القرشي
..................
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون.
في فن البرمجة اللغوية العصبية، وعلوم الإدارة، والتطوير الذاتي، والجودة تطرق الكثيرون ومازالوا عن (النمذجة) التي تعنى - من ضمن ماتعنيه- القيام بما يشبه عمليتي النسخ واللصق لأي نموذج (مثال)، ومحاولة نقله لشخص آخر (هدف)، بغية إكسابه كل أو بعض الجوانب الإيجابية المتوفرة في النموذج.
والنمذجة تقترب وتتشابه وتتقاطع مع مبدأ القدوة والاقتداء، رغم اختلافها عنه في جوانب ليس المقام مقام تفصيل فيها.
الذي يعنينا هنا، هو أن من يتأمل بعمق وتدبر في آيات سورة الكهف العظيمة، يجدها تقدم صورا جلية، وأمثلة واضحة تصلح للنمذجة بشكل أو بآخر، وتناسب أن تكون قدوة لكل من ينشد المثال، ويبغي التميز والتفرد، ويروم السلامة من الفتن، وقبل ذلك النجاح في دنياه وآخراه.
إن مزية القابلية للنمذجة المتوفرة بجلاء في قصص هذه السورة، وبين ثناياها يجعل منها واقية من الفتن، عاصمة منها بأمر الله عز وجل، ولهذا - والله أعلم - ورد التوجيه النبوي بقرائتها كل يوم جمعة.
فتية الكهف في ثباتهم على دينهم، واصرارهم على التمسك به رغم كل التحديات التي كانت تحيط بهم، يجعل منهم (نموذجا) يرتجى، و(قدوة) تبتغى.
إن اليقين الذي كانوا يحملونه، والثقة بنصر الله، واتخاذهم قرار اعتزال قومهم - رغم مافيه من تهديد لحيواتهم - ، وتوجههم إلى الله عز وجل بالدعاء، والسير نحو الكهف، و أخذهم بالأسباب الممكنة والمتاحة؛ (كلب للحراسة وبعض وَرِقٍ)،،، كلها جوانب مهمة لأي إنسان يتعرض إلى الفتن في الدين في أي زمان ومكان.
وبالمناسبة الفتنة في الدين لاتقتصر فقط على محاربة الملتزم بدينه، ليتحول إلى غيره، أو ليلحد لاسمح الله، بل تمتد لأمور أخرى هي الأكثر شيوعا في عصرنا الحاضر.
ومثال ذلك، قاض مسلم ملتزم يغرى بالمال الوفير - الذي يسيل له اللعاب، أو بمنصب رفيع، أو بفتاة ذات حسن وجمال مقابل التساهل في أمر من الأمور كتمرير معاملة ناقصة، أو التوقيع على صك بغير وجه حق - كل ذلك وغيره من الفتنة في الدين. نسأل الله السلامة والعافية.
ويمكن أن تأخذ الفتنة وجها آخر يتمثل في تهديد ذلك القاضي بالقتل أو السجن أو النقل أو إيذائه شخصيا، أو إيذاء أحد من أفراد أسرته.
وما ينطبق على القاضي أعلاه، يمكن أن ينطبق على غيره من كبار المسؤولين والموظفين وصغارهم.
نعم إن في قصة فتيان الكهف أسوة لكل من تعرض، ويتعرض للفتنة في دينه. هناك مقولة تقول (فر من المجذوم فرراك من الأسد)، وقصة أصحاب الكهف، تقول لكل من يفتن في دينه: (فر بدينك من الفتن فرارك من الأسد).
أما في قصة صاحبي الجنة فنجد منها نموذجا يمكن استثماره وتوظيفه لكل من فتنه المال أو كاد يفتنه.
كل ماعليه أن يتأمل في تلك القصة، ويستشعر ماقاله صاحب الجنة المؤمن لصاحبه الكافر.
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا).
كما أن عليه التوقف والتأمل عند العاقبة الوخيمة، والنهاية المريرة لما آل إليه مال/ جنة ذلك الرجل؛ الذي نسي في لحظات غروره أن كل خير يأتي للإنسان هو من الله عز وجل.
( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).
وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح / الخضر معان عظيمة يستفيد منها كل من فتن أو افتتن بعلمه قلَّ أم كثر، وأهمها التيقن بأن الله خير معلم، والتواضع، والصبر وتحمل العناء والمشقة في سبيل اكتساب العلم وتحصيله، وعدم إغفال الغاية من طلب العلم والتعلم وهي بلوغ ونيل الرشاد.
موسى عليه السلام نبي الله وكليمه، ومتلقي الألواح / التوراة؛ الكتاب المقدس يوجهه الله عز وجل لاتباع رجل عادي ليتعلم منه. (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا).
وهنا يحضر قوله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وقوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، وقوله: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).
إن كثيرون ممن قدر لهم تلقي العلم في الكليات والجامعات، والمعاهد العليا، يروون قصصا تشيب لها الولدان من تعنت وغرور بعض أعضاء هيئات التدريس، و تعاملهم بفوقية مَرَضِّيَةٍ مع طلابهم وطالباتهم، ومرد ذلك فتنتهم بما لديهم من علم، مع أنه من المفترض أن يكونوا قدوات في التواضع والخلق.
ولقد فات هؤلاء أن في صفوف الأمة من هم أعلم من الأئمة.
وفي ثنايا قصة سيدنا موسى مع الخضر يمكن لأي أب أو أم أو قائم أو وصي أو مربٍ أو معلم يبغي لأبنائه أو من يقوم عليهم الهداية والصلاح والرشاد فما عليه إلا أن يكون هو (صالحا) في نفسه.
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا).
أما من وَلِيَّ من أمر الناس شيئا صغيرا كان أم كبيرا، وفتن بمالديه من سلطة وصلاحيات ونفوذ، فعليه بين الحين والآخر استحضار التعامل الراقي، والتعاطي النبيل من قبل(ذي القرنين)، مع ماتوفر لديه من معرفة وسلطة ونفوذ.
ويمكن تلخيصه في تسخيره كل ذلك للخير، ولمساعدة الناس بجانب تطبيقه لمبدأ الثواب والعقاب، ومكافحة الفساد، واعترافه وإقراره أن مامنح له من سلطة هو من قبل الله عز وجل.
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
إن من يصنع مثل صنيع ذي القرنين، ويفهم السلطة بمثل فهمه، تبقى له السلطة بأمر الله أمدا طويلا، وأكثر من بقائها لغيره.
قال تعالى:( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
.......
للاطلاع على الحلقات السابقة يرجى اتباع الرابط التالي /
https://oktob.io/qkhalaf