Image titleالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 
لا يختلف اثنان في أن المقصد العام للتشريع الإسلامي هو رعاية مصالـح العباد بـجلب المنافع ودرء المفاسد، والمستنبط من بعض آي القرآن من بينها ما جمع في قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)} سورة البقرة.  
فالمنافع والمفاسد تعتري كل تصرفات الناس ، فتكون أحكامها تبعا للراجح.         
والمعروف عند دارسي هذا الفن أن المقاصد في التشريع كثيرة ، ولكل حكم جزئي غاية يراد بلوغها، وبالاستـقراء وصل العلم إلى العام منها.      
والذي يركز عليه علماء الأصول كثيرا هو الكليات الخمس باعتبارها جامعة لفروع الأهداف الشرعية ، حتى ظهرت كالـمعلوات من علم الأصول بالضرورة ، واستـفيد ذلك من إشارة الله  في كتابه الكريم بقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} سورة الممتحنة.     
فالنهي عن الشرك حفظ للدين ، وعن السرقة حفظ للمال ، وعن الزنا حفظ للعرض ، وعن القتل حفظ للنفس ، وعن البهتان حفظ للعقل.     
فحشرت المقاصد الجزئية المتـفقة على الدين في كلية حفظ الدين ، والمتـفقة على النفس في كلية حفظ النفس وهكذا، وإذا روعي الترتيب بين الكليات طبق على الفروع المقاصدية التابعة لها كذلك ، وإذا قدمت كلية على أخرى ولو بعدها في الترتيب لأولوية خاصة قدم فرع مقاصدي تابع لها للأولوية نفسها.         
ولذلك أحاطت بالأحكام الجزئية صونا من الانحراف الفقهي ، ومراعاة للقواعد العامة لتعبيد طريق علمي لا تزل معه قدم الفقيه، فتستنبط الأحكام وفق السياج الشرعي ، مثل المواد القانونية التي يراعى فيها عدم الخروج عن القواعد الدستورية وإلا ألغيت من التنفيذ، يسلك الطريق نفسه مع الفروع الفقهية التي يلغيها عدم التطابق مع القواعد العامة والمقاصد الشرعية.         
فالكليات الخمس لن يتأتى لها الاستقرار في صون الفروع الفقهية وتصرفات العباد من الزيغ إلا إذا حفظت من الإهمال والتـقهقر الأصولي.     
لقد وجدت في قراءاتي الكثيرة لكتب أصول الفقه ، وفي المناهج المسطرة لمادة العلوم الإسلامية، وفي حضوري مختلف الحصص التربوية للسادة الأساتذة ، تناول جانبي الإيجاب والعدم للحفاظ عليها ، إذ وجدت الأمر مقتصرا فقط على ما أمر الشارع به، وما نـهى عنه لتحقيق المبتـغى.      
لكن من خلال مطالعاتي كتب الشريعة واستلهامي من خلال التدريس ، ومصاحبتي اليومية كتاب الله تعالى وملامساتي الواقع الميداني، والمقارنة بين القانون الوضعي والتشريع الإسلامي، أيقنت أنه لا يوجد تنظيم سيج على قانونه وكلياته وقواعده بشكل محكم مثل الشريعة.        
فتوصلت إلى قناعة مفادها أن المعمول به في تعليم الشريعة للناس اليوم قاصر عن المراد ، بسبب التركيز على ثنائية الأمر والنهي فقط ، بينما هي أشمل من هذا كله ، لأن من خصائصها الشمول الذي نحدث العوام والنخب به .   
إن الاقتصار على ذلك يبقي مصراعين مفتوحين للإفلات من سلامة الاستنباط والاجتهاد والتـقنين والإلزام وصيانة المجتمع من الهلاك.       
كيف لا ونستقرىء فيما سبقت الإشارة إليه مربعا يحمي قواعد الأحكام وأصول التشريع ، فيمنح ساحة البشرية سعة كبيرة من السعادة والأمن والاطمئنان وصواب التصرفات وصفاء السجايا وصدق النوايا.         
إن هذا المربع في رأيي يتكون من الأمر والنهي والمكافأة والعقوبة.  
الكثير من المدرسين يقتصر على حفظ الكليات من جانب الوجود وجانب العدم ، بينما الشريعة أحاطت ذلك بالإلزام عن طريق الأمر، والتحذير عن طريق النهي ، والترغيب عن طريق المكافأة ، والترهيب عن طريق العقوبة.        
وهذا ما يـمثل في رأيي حراسة للدين ، وسياسة للدنيا بـها.     
فإذا جئنا إلى حفظ الدين مثلا نجد :       
الأوامر :  بالتدبر والتـفكر في الكون والدعوة إلى العقيدة الصحيحة والصلاة والذكر ومنه قراءة القرآن وغيرها.  
النواهي : عن ترك الصلاة وسب الدين والردة وغيرها.   
المكافآت : بالفلاح في الدنيا عن طريق السيادة بقيادة العقيدة إلى الالتزام وقوة الصلة بالله ، والسعادة في الآخرة بنعيم الجنة. 
العقوبات: بجهاد الأعداء ومعاقبة المرتد وشاتـم الله ورسوله وغيرها.       
وإذا جئنا إلى حفظ النفس مثلا نجد:       
الأوامر :  بالزواج والتناسل والأكل والشرب وغيرها.    
النواهي:  عن قتل النفس والإجهاض والانتحار والإضراب عن الطعام وغيرها.     
المكافآت:  بالقوة والبناء بكثرة الأسر والترابط الاجتماعي وتوفر الطاقة البشرية للنهوض بالأمة ومقارعة الأعداء وغيرها.   
العقوبات: بالقصاص للمقتول عمدا إلا بصلح ودية المقتول خطأ والغرة للاجهاض وغيرها. 
ولنـقس على ذلك سائر الكليات الباقية .       
لا أدعي غياب قناعتي على علمائنا الأجلاء ، لكن أجزم أنه في الأدبيات الشفهية فقط ، أما على مستوى التدوين العلمي الرسمي فلا أثر له في الـمواثيق. 
لذا أتعجب ــ في زمن البحوث والدراسات ــ مـمن يـحصر العلوم الشرعية في جزئيات لا تفي بالأغراض المقصودة وعلى رأسها خدمة الإنسانية ورعاية مصالحها بـجلب المنافع ودرء المفاسد ، وهذا في رأيي لن يتحقق إلا بإحاطة الشريعة وقواعدها الأصولية والفرعية وأحكامها الضرورية والجزئية بحام مـحكم من التـفلت والإهدار.  
كيف لنا في زمن كهذا نغفل مثلا عن دور العقوبات في حـماية القانون من العصيان ، ونحن نرى في العالم الآخر ما ردعت من مخالفين حتى أصبح التزامه ثقافة سارية بين الأفراد والمجتمعات ، لا بتربية قديمة ووازع روحي وعلمي وأخلاقي فقط ، إنـما  الردع هو الذي هيأ الناس على السبل السوية.    
كما أعتب على الـمعجبين بالثـقافة الغربية غفلتهم عن جانب المكافأة الحاضر شرعا الغائب وضعا، فالله تعالى على سبيل المثال يوجب على الفرد أحكاما ويحرم عليه أخرى لكن يكافئه بعد الامتـثال دنيا وآخرة ، ما يلهم الإنسان بحريته وكرامته بين أحضان الشريعة ، يدفعانه إلى التطوع ابتـغاء تلك الـمكافآت العاجلة والآجلة ، حتى ولو غاب الآمر الناهي ، فإن الحاضر هنا هو الضمير الإيـماني.        
أما القانون الوضعي فيأمر وينهى مع الإلزام الإجباري دون امتنان وبلا مكافأة بعدها ، ما يشعر الإنسان بالضيق والتطبيق الحتمي شاء أم أبى دون كرامة ولا قيمة ، يدفعه إلى التحايل كلما غاب الرادع والـمراقب، لأن الضمير غائب كذلك ولم يـكتسب خلق التطوع، لأنه لا ينتظر بعده ثوابا ، والإنسان جبل على العمل بالمقابل.     
لذلك أدعو علماءنا ، وأساتذتنا ، ومثقفينا إلى مراجعة استنباطات كثيرة ، وتسطير مناهج الفكر الإسلامي بـما يتماشى ورونق الشريعة الغراء مـما غاب عنا بريقه في ثنايا المواثيق المنطوقة والـمقروءة ، ولو باستـقراءات جديدة لفروعها ، حينها ستتكشف لنا أسرار غيبها عنا غبن الفكر ، وقصور الوسائل ، وضعف الأساليب.    
بذلك سنعيد إلى شريعتنا الهيبة الضائعة ، والقيمة الباسقة ، والميزة الرفيعة ، والمنزلة الجذابة، فنأمل في توافد من يدخلون في دين الله أفواجا، كأفواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.