عن ابي هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن ادم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له».رواه مسلم

خُذُوا جُنَّتَكُمْ مِنَ النارِ؛قولوا: سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ، فإِنَّهنَّ يأتينَ يومَ القيامةِ مُقَدِّمَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ وَمُجَنِّبَاتٍ ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ.النسائي -صحيح الجامع.


الروح التي لا تموت بموت الجسد:


الكثير من الناس عندما يموتون، يُنسوْن كأنّهم لم يكونوا. نعم قد كانوا هنا بالأمس، ولكنّهم اليوم لا تجد لهم أثرا. ومن الناس من لا يموت، حتى بعدما تفارق روحه جسده، حتى بعد أنْ يُوارى الثرى، فإنّه لا يزال حيا بيننا. الموت والحياة لا يتعلّقان بحياة، أو بموت الجسد وإنّما بحياة الروح في هذه الحياة. 

فعلا، هناك من الناس لم يموتوا، وعزموا على البقاء هنا في الحياة، وما أحياهم إلا تلك الأعمال الخالدة التي تركوها في حياتهم. وما تركوه أحيا وأفاد كثيرا من أبناء البشر من بعدهم. وسواء كان هذا الذي تركوه: علما، فلسفة، أخلاقا، حكمة، عمرانا، نظريات، كتبا. هؤلاء الناس خلّدتهم أعمالهم عبر السنين، والقرون، والعصور.

صحيح أنّ نفوسهم فارقت أجسادهم، ولكن مبادئ أرواحهم، وكلامها، وحكمها، ونداءاتها، وعلمها تجسّدت في الأعمال والكتب فبقيت بذلك نفوسهم خالدة.

روح العبقري لا تموت في هذه الحياة، بالرغم من فناء جسده. وقد لا يُعرف قبره من الأساس. ولكن، نفسه العميقة تقمّصت الكتب والأعمال، فبقي لها أثر مع ينتفع منه الأحياء. والتقمص الحقيقي ليس ذلك الذي يقول: بعودة الأرواح في أجساد جديدة. بل هو الذي تتقمص فيه الروح عملا إبداعيا جديدا، يخرج إلى الوجود يكون أثرا، وشاهدا على وجودها على هذه الأرض.

وكثير من الناس لا يُعرفون إلا عن طريق أعمالهم التي تركوها لنا، ولا تزال شخصياتهم وعقولهم ومبادئهم تؤثر في هذه الحياة، بالرغم من موتهم الذي كان منذ فترة بعيدة.

ومن الموتى وهو في قبره، يُسجِّل في صحيفته في كل يوم الملايين من الحسنات، بسبب علم وعمل تركه خلفه ينتفع به الناس، عدد الحسنات التي تدخل في صحيفته، قد يفوق عمل الآلاف، أو الملايين من الناس الأحياء. فكم هو ثواب البخاري ومسلم اللذان جمعا سنة النبي عليه السلام؟ فكل شخص يقرأ أو يطلع على تلك السُنّة التي في كتبهما إلا وأخذا على ذلك الأجر والثواب. الإنسان الذي يخلف وراءه أثرا، كأنْ يترك دواء، أو علاجا لمرض ما، أو كتابا يمتلئ بالخير، أو بئرا ينتفع الناس بمائه، ستصبح تلك الآثار مصدرا لا ينقطع في جلب الحسنات لصاحبة وهو ميت.

إنّ من يخلّف وراءه بئرا، مساكن للفقراء، مسجدا، علما أو أي أثر بعدما يموت، هو في الحقيقة يخلّف وراءه كائن حي، مهمته تحصيل الحسنات والثواب لصاحبه بعد مماته، بعدما جسّد ونقل روحه في ذلك الأثر. وهكذا لم يمت هذا الإنسان بموته، وإنّما استمر في عمله. فهو إنْ مات بيولوجيا فهو لا يزال حيا عقليا وروحيا في عمله.


النملة والادِّخار


في حياة النمل أشياء تستحقُّ التأمل، فتلك الحشرة الصغيرة، لها نظرة اقتصادية بالفطرة، حيث تجمع القمح، وتنقله، وتخزّنه في مسكنها. لتدّخره ولتأكل منه في فصل الشتاء. ففي خارج مسكنها في هذا الفصل:المطر، والثلج، والبرد، واستحالة وجود المؤونة. وهذا ما نفعله نحن البشر، نخزّن بعض الأموال ليوم الأزمة، أو ليوم الحاجة. والكثير منّا يخزّن الشعير، والقمح، والأرز، وجميع ما يمكن تخزينه لفصل الشتاء. أتذكّر أمّي التي كانت تخزّن الكُسكُس الجزائري لفصل الشتاء. في فصل الصيف كانت تُهيّئه، ليصبح على حالته الأخيرة، إذْ يمرّ على مراحل: فبعد طحن القمح، تقوم بفتله (أي تحويله إلى حبيبات صغيرة، من خلال تحريك الطحين في قصعة بيديها، بقليل من الماء)، وبعد فتله، تضعه في وعاء خاص به، ليتعرّض للبخار، وبعدها يتم بسطه على الأرض، ليتعرّض للشمس ليجف، وبعدها تضعه في الأكياس، وتخرجه لنا في ليالي فصل الشتاء.

وإذا كان الحيوان يفكّر في مستقبله بطريقة فطريه كالنمل، فقد تعلّم الإنسان منها هذا السلوك في تخزين الطعام، والمؤونة، والذهب لوقت الحاجة.

ولكننا للأسف، تعلمنا كيف ندخِّر لمستقبلنا من الناحية المادية، ولم نتعلّم بعد أنْ ندّخر لأرواحنا. ذلك أنّنا في فصل الشتاء، أو في حالة حدوث أزمة غذاء عالمية، سنتوجّه مباشرة إلى مدّخراتنا من مخزون الغذاء، الذي وضعناه في مكان ما. وإذا ما وقعنا في أزمة مالية، نتوجّه مباشرة إلى مدّخراتنا من الذهب، والفضة، والمال الذي في البيت، أو الذي أودعناه في البنوك. بذلك نكون على قد تجاوزنا الأزمة المادية. ولكن أين ستجد نفوسنا مدّخرات عندما تحتاج إلى بطاقة عبور إلى الجنة؟ فهل لنا مدّخرات من الحسنات ومن العمل الصالح؟

مدخرات في بنك النفس


صحيح أنّ حياتنا تحتاج إلى مدّخرات من المال، والذهب، والفضة، والطعام ليوم الحاجة في هذه الدنيا، ولكن الروح أيضا تحتاج إلى مدّخرات، لتنجِّي نفسها عندما توضع في القبر، وعندما تبحث عن بطاقة العبور إلى الجنّة. 

للأسف إننا نتوجّه بشراهة نحو تكديس الأموال ليوم الفقر والحاجة، ولكننا لا نتوجّه بنفس الهم، والرغبة لادخار الحسنات والعمل الصالح. وإذا كان الإنسان الذي لا يملك مدّخرات يخاف من الوقوع في الأزمة، لكيلا يقع في الديْن، أو التسوُّل. كذلك على الإنسان أنْ يخاف من الوقوع في الإفلاس عندما لا يجد الحسنات الكافية تسمح له بالدخول إلى الجنة وتجنّبه قبل ذلك عذاب القبر.

إنّ الخوف من المصير غريزة إنسانية، وإذا كان الادّخار الاقتصادي وسيلة لاجتناب الوقوع في الأزمات الاقتصادية في الدنيا، فإنّ الذكر التالي مثلا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة الا بالله، تملأ الحساب البنكي للمؤمن دون أنْ يبذل أي جهد يُذكر. ماذا نخسر لو أنّنا ندّخر لنفوسنا وذلك بوضع برنامج يومي لملء حسابنا من الحسنات باختيار ساعة من كل يوم لا نفعل فيها شيئا إلا ذكر الله تعالى. ولو كان ذلك بتخصيص ساعة في الأسبوع، أو في الشهر.

عندما نملأ صحيفتنا بالحسنات يزول عنّا كل خوف من المستقبل البعيد، وهناك الكثير من أنواع الخوف والقلق لا يعرف الإنسان سببها وتفسيرها. وقد يكونها مردّها إلى خوف غريزي من المصير، لأنّنا قد لا نملك الحسنات الكافية للوقاية من عذاب القبر، وعذاب النار.

 مجددا، إذا كنّا نبدّد الخوف من المستقبل، في الدنيا بمجرّد أنْ تكون لنا مدخرات معتبرة. كذلك يزول من قلب الإنسان كل قلق من المستقبل البعيد، أو المصير إذا ادّخر لنفسه ما يكفي من العمل الصالح. إنّ الذكر الكثير بالإضافة إلى كونه سببا في طمأنينة الروح، فهو أيضا سبب في زيادة رقم أعمالنا من الحسنات في كتابنا الذي سنقرؤه في يوم القيامة ويترجح بذلك ميزان الحسنات. 

إنّ من يذكر الله كثيرا، يدّخر في حسابه حسنات كثيرة، ويجدها في يوم توزن فيه الأعمال. في يوم يودّ المرء أنْ يشترى حسنة واحدة فقط بالدنيا وما فيها.

لاحظ يومئذ، حسنة واحدة تعادل الدنيا وما فيها. فلماذا لا نذكر الله؟ وندّخر لذلك اليوم. تخيّل ماذا لو رجح ميزان السيّئات، ومالت كفّته بسبب حسنة واحده ناقصة، ألا تكون الحسرة شديدة، وندم كبير؟

إذا كان البعض يهتم بملء حسابه البنكي ليرفع من رقم حسابه من المال، فذوي الألباب لا ينسون التفكير لأجل زيادة مدّخراتهم من الحسنات ليوم القيامة.