عن عبدِ اللَّه بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: نَامَ رسولُ اللَّه عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، لوِ اتَّخَذْنَا لكَ وِطَاءً، فقال: مَا لي وَللدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا رواه الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
تسارع الزمان؟
عندما تُولّي بفكرك إلى العصور الغابرة وتتأمل في أثار البشر الباقية، تتيقن أنّ كل الناس الذين عاشوا في تلك الحقب الزمانية كانوا أحياء ثم ماتوا، وعندما تتأمّل في عصرنا الحالي قبيل سنوات الحرب العالمية الأولى بقليل، تتيقن أيضا أنّ اغلب الناس الذين ولدوا قبل تلك السنوات قد رحلوا هم أيضا-فلا أحد لا يزال حيا منذ 1900-وعندما تتذكّر بعض الناس الذين تعرفهم ورحلوا، تجد أنهم هُم أنفسهم بدورهم قد اندرجوا ضمن هذا القانون وهو السفر إلى العالم الآخر. منهم أصدقاؤك، أقاربك، من أفراد عائلتك.سواء، كان ذلك الفرد قريبا منك أو بعيد.
هذا القريب أو هذا الصديق كان بالأمس فقط يمشي ويأكل الطعام مثلك، كانت له أحلام
وطموحات مثلك أيضا. بل يتجاوزك في أحلامه وطموحاته وفي عنفوان وصلابة إرادته. وهو الآن في عداد الموتى. أمّا بقاؤك حيا فلكي تقرأ كتاب الموت وكتاب السفر جيّدا لكي تتعلّم.
في قريتي ومدينتي حيث كنت أسكن قبل عشرين سنة، كنت ُ أعرف الكثير من المسنين يتجاوزون الستين، كانت تعج بهم المقاهي ومجالس الطرقات، وعندما كنت أمرّ عليهم، يسألونني عن جدّي: أين ذهب جدُّك اليوم؟ هؤلاء الشيوخ وجدِّي معهم، كانوا يملؤون المساجد في يوم الجمعة، ويتجمعون أمام المسجد عند خروجهم. ولكن عندما أسأل سؤالا تأمليا أين هم الآن؟ لأجبتك بغير تردد: لقد رحلوا جميعا. لقد توفي جدّي رحمه الله في مرضه الأخير وهو في سن ثلاثة وثمانين سنة، ها هو قد رحل وتبعه ابنه الذي هو عمي في الخامس والخمسين من عمره. وأتذكر عمّي (رحمه الله) وأحاديثه الشيقة التي لا تُمل وفاجأه مرض السرطان، وتوفي على إثره، في العام الذي أكمل فيه بناء مسكنه الجديد باحثا عن المسكن الواسع بعيدا عن بيت الأهل الكبير.
بالأمس فقط، كانوا رجالا عظام: ستالين، هتلر، جمال عبد الناصر، هواري بومدين، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، مارادونا،...عبد العزير بوتفليقة، والسادات...بالأمس كانوا يصنعون الأحداث وتمتلئ بهم الصحف، وتتهافت عليهم الجماهير من كل جانب ويأتون إليهم من كل حدب وصوب. نراهم الآن في عداد الذين يلفُّهم الصمت، ولا يُذْكرون إلا قليلا في الحديث. وقد كانوا بالأمس القريب يصنعون الحدث العالمي، ويُتسابق، وُيتزاحم حولهم لالتقاط الصور لهم أو معهم.
لقد فعل قانون السفر القسْري فعلته مع هؤلاء. صحيح أنهم لم يُسافروا بمحض إرادتهم، ولكن سافروا مُرغمين على ترك الأرض لما بعدهم.
بالأمس فقط، كان يتحرّك، ويأكل، ويلبس، ويقود السيارة. يلتقط صورا، يحلم، ويُريد، يغضب، ويضحك، ويبتسم،ويبكي. وهو الآن في عالم الصمت بالنسبة إلى الأحياء. وهو الآن في عالم آخر.
بالبارحة كان يصنع الحدث، ويصدر القرارات، ويعيش حاضرنا. أمّا الآن، فهو في حاضر غير حاضرنا، ولم يبقى منه لدينا سوى الذكريات، أو أرشيف من الصور، و الفيديوهات.
وإذا كان السفر إلى بلاد بعيدة لا يتطلب الكثير من المؤونة والمتاع. لكيلا يُثقل كاهل الإنسان في الطريق،لأنّه كلما كان الحمل خفيفا، كان السفر والوصول أسهل وأسرع. لكن الإنسان نسي قانون الموت الذي يسري على الجميع. ونسي أنّ الإنسان هو كائن فاني، ونسي أيضا أنّه كائن مسافر في الأصل. ولو أنّه يعلم يقينا أنّه مسافر لن يحمل معه ما يثقل كاهله من المتاعب.
تخيل هذه الأرض، كم حملت من أُناس وشعوب وأفراد ومساكين وأقوياء وجبارين وعبيد وأباطرة؟ أين هم الآن؟ لقد سافروا، وسيسافر اللاحقون معهم، كل حسب طريقه التي اختارها في الدنيا.
لا داعي للحزن:
لو فكّر الإنسان أنّه لن يعمِّر طويلا على هذه الأرض، فإنّه لن يحزن على الأشياء التي لا يمتلكها، والقصور التي لا يعيش فيها، ولو فكّر الإنسان أنّه لن يأخذ معه شبرا واحدا من الأرض، لما ذهب إلى قاعات المحاكم والنزاعات، ولما دخل مع إخوانه في صراعات من أجل الفوز في نزاعاته.
والحياة بطبيعتها متسارعة، إنّها تمثّل وقتا قصيرا جدا. بالنسبة، لهذا الذي على وشك مغادرتها، فلو سألت كل إنسان وهو على وشك الرحيل: كم عشت لقال لك: يوما، أو بعض يوم. فالحياة تشبه الحلم، كبضع ثواني ثم ينتهي الحلم.
تأمّل في زمان حياتك الشخصية، كيف كنت قبل عشرين سنة؟ ألا تتذكر سنوات الابتدائية واليوم الذي دخلت فيه إلى المدرسة وأيام مراهقتك وبدايات شبابك. ألم تمر سريعا ؟ أليست الحياة كحلم؟
عندما تُقلِّب في الأرشيف لتلك اللقطات الحيّة من الفيديوهات التي التقطت حول مباريات كرة القدم في الثلاثينات أو الخمسينات أو التسعينات، ستجد أنّ اغلب ذلك الجمهور الذين كانوا في مدرجات الملعب. قد ماتوا جميعهم، وربما قد تشاهد فيديو حديث لا يتجاور خمس سنوات، قد تجد البعض منهم قد غادروا. ولكن من يشعر بقصر الحياة؟ وأنّ زمانها -مهما توهمنا أنّه امتد-، فإنّ عمر الإنسان لا يتجاوز كمن استظلّ تحت شجرة وغادر.
ظل الشجرة
إنّ من يفكّر بعمق أنّ عمر الإنسان لا يتجاوز زمن ظل الشجرة في استوائه النهار لا يحزن لعدم امتلاكه القصور، ولا الضيعات، ولا الشركات، ولا يحزن لعدم حصوله على منصب راقي، أو منصب وزير، أو منصب رئيس جمهورية. ولا دخل أيضا في منازعات، ومعارك، ومشاجرات دامية مميتة. فهل يحارب الإنسان لأجل شيء سوف يتركه؟ فالمرء حتى وإذا امتلك هذه الأشياء سيتركها لغيره. فلو كانت لك لما وصلت إليك.
المنصب الذي أنت فيه ستتركه كما تركه أناس من قبلك، والذي يمتلك الثروة لو كانت له حقيقة، لما تركها غيره له. فهذه الثروة ستبقى عنده لمدة ثم تذهب لغيره.
المنصب لا يدوم فيه الإنسان ولن يخلد فيه، لأنّه سوف يتركه لغيره عندما يشيخ ويكبر، بل حتى عالم كرة القدم يسري عليه قانون ظل الشجرة، فمهما بلغ اللاعب من مهارات وموهبه ومجد في سنواته الأولى، سيأتي من يخلف مكانه عندما يكبر، وعندما لا يستطيع أنْ يقدِّم شيئا لفريقه. ولا الجمال سوف يدوم، إنّه مجرّد زينة وجلد جميل تلبسه أيّاما وتفرح به لبعض الوقت وسوف يذبل. وسوف يأتي من الشباب والشابات بعدك من يفتخر بجماله، ثم سوف يرونه يذبل. وتدور الدائرة على أناس آخرين.
الآلام التي أحياها الآن لأنّي أعيش قهرا وظلما وتعاسة وفقرا وابتلاء يمكن أنْ أزيلها من خلال رؤية الأشياء والأحداث من منظور أنّ الحياة وما فيها لا يتجاوز قدرها مدة استواء ظل الشجرة، فحتى الألام لا تدوم.