تستوقف المتأمل في هذه السورة العظيمة تطرقها تصريحا وتلميحا في أكثر من موضع لأهمية الكلمة وخطورتها، وكيف أن عوالم من الخير والشر تقوم على أساس من الكلمة.
التوحيد قضية الحق المبين منذ أن أبدع الله الكون، وخلق الخلق، وإلى أن تقوم الساعة قائم على كلمة (لا إله إلا الله).
وهذه السورة تصف كلمة الذين أشركوا بالكبيرة: (مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)، وتلك الكلمة هي قولهم زورا وباطلا (........ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا).
إن أي كلمة لايقوم عليها دليل مادي أو معنوي تبقى احتمالات كذبها، أكبر من صدقها.
(هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ۖ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
وكان من ضمن رحمة الله تعالى لأهل الكهف أن ضرب على آذانهم، أي حال بينهم وبين أسماعهم من أن تصافحها أي كلمات قد تعيق تمسكهم بالتوحيد، أو تخل بالرحمة الممنوحة لهم من الله عز وجل.
إن جارحة / حاسة السمع هي الجارحة الوحيدة التي ذكر الله صراحة أنه ضرب عليها لكي لاتعمل، وهي جارحة التلقي للكلام طيبه وخبيثه، صالحه وفاسده، فلم يقل الله عز وجل أنه ضرب على أبصارهم ولاعلى ألسنتهم وأفوههم، ولاعلى أيديهم أو أرجلهم، ولاعلى أنوفهم. الأمر الذي نستشف منه درسا حياتيا خالدا ألا وهو إن الإنسان عندما يتيقن ويتأكد أنه على الحق المبين في زمن الفتن فعليه أن يصم أذنيه عن سماع ماعداه، لأن (كثرة الدوي تغلب السحر)، كما يقال، و معسول الكلام من الشيطان وأعوانه وأتباعه قد يؤثر على الإنسان ويحرفه عن الصراط المستقيم.
ألم يخرج الشيطان الرجيم أبانا أدم عليه السلام وزوجه من الجنة بمعسول كلامه.
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ. فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ).
ومازال هو وقبيله وأتباعه يزينون للناس الشرك والضلال، والفساد بكلمات ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبلها العذاب.
أليست لعبة الإعلام الخطيرة اليوم وغدا وأمس، و سلاحه الفتاك (الكلمة) ملقاة أو مذاعة، حية أو مسجلة، مكتوبة أو متلفزة.
ألم -تَرْمِ كلمات الزعيم النازي(هتلر) ملايين الألمان وغيرهم من مناصريه، والمفتوتين به في أتون حرب عالمية، كلفت الإنسانية ملايين القتلى والجرحى، والمشردين والمعدمين، ودمرت مدنا وبلدانا كان يشار إليها بالبنان، وأصبحت أثرا بعد عين، وغيرت خارطة العالم، ودمرت اقتصاده، ونزعت منه النبل، وعنه الإنسانية.
وغير (هتلر) ومثله كثيرون في غابر الأزمان وحاضرها ومستقبلها.
أليست الكلمة الباطلة هي سلاح الدجال العظيم، الذي ورد في الأثر أن قراءة هذه السورة تعصم بأمر الله تعالى من فتنته.
والكلمة التي ظاهرها الخير، و باطنها الشر هي سلاح كل دجال في كل زمان ومكان، وما أكثرهم في زماننا هذا. نسأل الله السلامة والعافية.
عندما تشير السورة في أكثر من موضع إلى الكلمة والكلام، وإلى القول والحوار وإلى الحديث والجدال، وهي تتحدث عن الفتن أنواعا وأشكالا، وقاية وخلاصا، فإنها تقول وتؤكد - لنا وللناس كافة وإلى أن تقوم الساعة - أن ثمة ارتباطا وثيقا بين الفتن والكلام، وأن البلاء موكل بالمنطق، وأنه بقدر مايكون الإنسان حذرا ومحاسبا وواعيا لكلامه وبمنطوقه، فإن احتمالات نجاته من الوقوع في الفتن كبيرة بإذن الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (ثَكِلَتَكَ أُمُكَ يامعاذ، وهل يَكُبُ النَاسُ في النارِ إلا حصائِدُ ألسنتهم).
لقد أولى القرآن الكريم الكَلِمَةَ أهميةً كبيرةً في كل سوره الكريمة، وفي كثير من آياته العظيمة.
ولا أدل على خطورة الكلمة في المشاهد والملموس والمعروف، أن كلمة من شخصين قد يترتب عليها قتل إنسان حدا شرعيا، وأعني بذلك الشهادة الشرعية على شخص بأنه هو من قتل فلان، أو ساهم في قتله، فيقتل بحكم القضاء.
وشبه الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وفي المقابل شبه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة. قال تعالى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ).
ولعله من اللافت للنظر أن هذه السورة العظيمة أشارت في أول آياتها إلى كلمة شرك قالها مشاركون وهي(اتخذ الله ولدا)، فالنصارى قالوا المسيح ابن الله، واليهود قالوا عزيز ابن الله، وبعض العرب قالوا الملائكة بنات الله.
وبينت السورة فساد هذه الأقوال.
وختمت السورة بكلمة هي كمال التوحيد، وفصل الخطاب ومسك الختام، وهي قوله تعالى:
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
ومن المعلوم والمتفق عليه بلاغيا عند العرب، أنه عندما يتم السكوت والوقف على الكلام، فإنه يكون أدعى للتذكر والتركيز، والبقاء في الذاكرة والذهن، والرسوخ في الفهم، والوعي في الفؤاد، وتلك لعمري من بلاغة هذا الكتاب العظيم، ومن صور إعجازه المبين.
ومابين بدء السورة بالحديث عن كلمة(شرك كبرى)، وبين ختامها بكلمة(توحيد عظمى)، تطرقت السورة في ثناياها لكثير من الكَلِمِ الجدير بالتأمل والتدبر والاتعاظ، ومن ذلك قوله تعالى:
( (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً).
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا).
( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ياليتني لم أشرك بربي أحدا).
وفي قصة ذي القرنين نجد حضورا فاعلا وطاغيا للكلمة والقول.
قال تعالى:
( حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا. فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا. قال هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
السورة تتحدث أيضا عن عرض جهنم للكافرين أو على الكافرين يوم القيامة، وتصف حالهم بأنهم كانوا في غطاء عن ذكر الله، وكانوا لايستطيعون سمعا. وهذا تأكيد آخر على الخطورة المترتبة على تجاهل كلمات الحق.
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا. الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا).
وفي الآية ماقبل الأخيرة من هذه السورة، يؤكد الله سبحانه وتعالى على عظم كلماته وخلودها وتميزها واختلافها عن كل الكلم بقوله:
(قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدً).
وكلمات الله تشمل ضمن ماتشمل أحكامه وعلمه وآياته الدالة عليه، و أسماءه الحسنى، وصفاته العظيمة، والله أعلم وأحكم.
لذلك جاء من المناسب بعد أن أشارت السورة إلى كثير من كلام وأقوال البشر، أن تختم بالإشارة لكلمات الله تعالى التي لاتشبه كلام أي بشر.
قال تعالى في موضع آخر - في سورة لقمان - وفي سياق ذي صلة:
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
جعلنا الله وإياكم من أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون.
.....
لمتابعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة، يرجى اتباع الرابط التالي /
https://oktob.io/qkhalaf
..................