عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال "مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ"
صحيح الترمذي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال" ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم".
رواه الترمذي
بؤس الشكوى؟
عندما نتأمل في أحاديث الناس، نجد البعض من هؤلاء يضيّعون وقتهم في رفع الشكاوى للآخرين، وذكر كل كبيرة، وصغيرة عن همومهم. فبدل أنْ يتوجهوا للبحث عن مخرج مما هم فيه لأجل الخروج من مآزقهم ومشاكلهم يُحاولون أنْ يُخففوا عن بعض ما بهم بواسطة الشكوى والتشكّيى وذلك بإظهار ألامهم وإسماع آهاتهم للآخرين.
أما البعض الآخر فيندب حظه ويفكّر تفكيرا سوداويا بقوله: لم يبقى شيء في هذه الحياة يستحق العيش، كل شيء فقد مذاقه، وحلاوته ويردّد دائما: إني أعاني ومهموم، وليس هناك حل لمشاكلي، لقد فشلت، لقد هلكت، أصبحت الحياة لا تُطاق. ويصبح كلام هذا الشخص: شكوى، وتذمُّر، ونحيب.
وفئة أخرى تعقِّد من مشكلاتها، إمّا بالتفكير في الانتحار، أو تجريب الدخول في عالم شرب الخمر، وتناول المخدرات، والممنوعات. وهم بذلك يزيدون من تعقيد مشاكلهم تعقيدا. والبعض الآخر يفضل المكوث في دائرة الأوهام، ويقضي وقته في العلاقات العاطفية في عالم الانترنت، وفي مشاهدة الأفلام بحجة أنها تخفف من ألام الوضعية الراهنة.
ولكن بدل من الشكوى، والتذمّر، وبدل من التوجه نحو تأزيم الوضع بشرب الخمر، وسب الدهر. لماذا لا نجد مخرجا لمشكلاتنا بدعاء الله تعالى؟ فالوعي الإنساني لا يقبل بطبيعته الفراغ، فإمّا أنْ تجعل الناس متنفّسا لهمومك من خلال إسماعهم لشكاويك لعلّهم في اعتقادك قد يُزيلون عن بعض ما بك. وإمّا أنْ تدعوا الله الذي هو مالك الملك مُجيب المضطر ليفتح لك أبواب في الأمل.
في الماضي، لم أكن أعرف خطورة الشكوى، ولا طبيعة الناس الذين اشتكي لهم همومي. اعتقدت أنّ إسماعهم همومي، وألآمي، ومخاوفي سيزيل البعض من غمّي وحُزني. واعتقدت أيضا أنّه بإفراغي همومي لهم، قد أستطيع بذلك الاستئناس بهم.لم يكن ذلك صحيحا، لقد تبين لي عكس ذلك تماما. فلما تخرّجت من الجامعة، ولم يكن تخرّجي قد تجاوز شهرا، أو شهرين، استعجلت العمل والرزق. وبدل أنْ أتحلى بالصبر، وحسن الظن في الله، والبدء في إجراءات وضع ملف طلب العمل في المؤسسات، بدلا من كل ذلك، رحت أشتكي للبعض من جيراني، ومعارفي، وأصدقائي أوضاعي، ومخاوفي المستقبلية. بل وقد تلفظت بالكثير من الألفاظ غير اللائقة، معترضا على الدهر، والحياة والبلاد. لقد اكتشفت لاحقا أنّ الكثير من الذين لم يكونوا يحملون الشهادات يستمتعون بأحاديثي الممتلئة بالتذمر، والسخط وخاصة عندما اشتكي عن عدم جدوى الدراسة، والشهادة في هذا البلد، لأنّ ظنونهم في عدم أهمية الدراسة قد تحققت، وكانوا يروني نموذجا في ذلك الشاب المتعلِّم، والجامعي الذي لم يستفد من دراسته شيء. من فضل الله تعالى، لم يمر الكثير من الوقت إلا وكنت في منصب عمل. وبعد هذه التجربة تعلمت قواعد في الحياة من أهمها:
-هناك من الناس من يتشفّى فيك عندما يسمع همومك ويتعرّف على ألأمك التي كشفتها له بنفسك. حتى وإنْ أظهر لك تعاطفه الظاهري معك. لم أكن أعرف بعد، أنّه على الإنسان أنْ يحافظ على ماء وجهه، فإظهار الهموم، والشكاوى هي التي تذهب ماء الوجه، والوقار. ثم على الإنسان أنْ يبدو دائما في مظهر القوة لا الضعف، في مظهر الوقار لا في مظهر الذل والهوان.
- ويعجبني البعض من الناس الذين اعرفهم من بعيد، بالرغم من حالتهم الاجتماعية المزرية والفقر الذي يعانوه.ولكنهم مع كل ذلك، لا يُبدون أي سخط أو تذمّر، ولا يعرف الناس عنهم أي شيء، تبدو هذه النوعية من الناس في نظر العامة: بمظهر الوقار والاحترام، ولا يعرفون عنهم أي خصوصيات أي يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ وهم الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273). سورة البقرة.
- إنّ من يشتكي، ويكشف همومه للناس، سيُظهر حتما البعض من حياته الشخصية، وجوانب ضعفه وكأنّه بذلك يستجديهم ويطلب منهم الرحمة. ومن الأفضل أنْ تبقى الحياة الشخصية بمنأى عن معرفة الأصدقاء والأعداء والغرباء، حتى لا تكون نقطة ضعفك يمكن أنْ يستخدمها البعض ضدّك في أيّ وقت من الأوقات.
من سلبيات الشكوى والتشكّي: أنْ يبتعد الناس عنك، ويستكرهون الجلوس معك. والأخطر من ذلك يستثقلون كلامك، لأنّهم يعرفون أنّك كثير الشكوى والسّخط فينفرون منك ويبتعدون، ويهربون كلّما وجدوك في طريقهم، لأنّهم لا يريدون أنْ يحملوا هموما جديدة مع همومهم. فهم أيضا ينتظرون من يبشرهم ويفرحهم ويفرّج شيئا عن كربهم.
- فكل إنسان له هم في هذه الحياة أو هموم كثيرة: هموم العمل، هموم الأولاد، هموم الزوج أو الزوجة، هموم المستقبل، هموم المرض، هموم الديون. وليس للمرء متسع من الوقت أو مكانا في قلبه لكي يحمل همومك.
ومن الناس من يأخذ همومك بمحمل السخرية والاستهزاء وقد ينقلها للآخرين ويجعلونك حديث العام والخاص.أما نفسك التي بين جنبيك، فإذا أكثرت عليها الشكوى والحسرة واللوم والجلِد من خلال حديثك الداخلي معها، فإنّك ستحطّم ركائزها من الداخل، وتُضعِف ارادتك وتقتل طموحاتك وتسوِّد رؤية الحياة عندك.
تغيير الاستيراتيجية:
فبدل من الشكوى والبكاء للناس، لماذا لا نشتغل بدعاء الله تعالى؟ فأيُّ شيء أجمل من رب إذا لم تسأله يغضب عليك، فالحمد لله الذي هو رب العالمين، وفوق ذلك، رحمن بالكافرين، والمؤمنين معا، وهو رحيم ايضا بالمؤمنين. وهذا القول هو مبتدأ القرآن، في أوّل سطور سورة الفاتحة: بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرحمن الرَّحِيمِ.
فوعيك إذا لم تشغله بدعاء الله فإنّك ستشغله بأن تشكو للناس همومك، أو تتجه إلى دعاء الأوهام والخيالات، أعني تمارس خرافة وتقنية الجذب التي بزعمهم تجلب لك الأهداف.
فبدل من قول: لقد انتهيت، لماذا لا أقول يا ربي فرّجها عليّ؟ وبدل من قول: إنّ هذا الأمر صعب، فلماذا لا أقول: يا ربي سهل لي ذلك الأمر؟. يتعلّق الأمر بتغيير الألفاظ التي اردِّدها في داخلي، فبدل من ترديد كلمات بائسة محزنة، أُردد كلمات ايجابية تبتدئ بكلمة: يا ربي، أو يا إلهي. بهذا يمكن أنْ أغير ما هو سلبي في نفسي إلى ما هو إيجابي، بالاستعانة بخالق الكون. إنّ الإنسان ليس لوحده في هذا الكون، بل هناك إله مدبّر لكل شيء، وإذا تعلّقت نفسي بالمدبّر، مالك الملك، سيزول عنها كل خوف سواء من المستقبل، أو من الأعداء، أو من المهالك والفتن.أمّا إذا اعتقدت أنّ الكون يحكمه قانون الجذب، فكأنّك تؤلِّه العالم، وإذا اعتبرت الكون بوصفه إلها يحقق لك كل شيء، فأنت في هذه اللحظة تعبد الكون، ليحقق لك ما تريد، وبدل من دعاء الكون، أو العالم توجّه إلى دعاء رب العالم والكون، والسموات والأرض.
والإنسان شغوف بتحقيق كل ما تريده نفسه، ولكن ليس كل ما تريده النفس معقول، منهم من يريد حكم العالم، ومنهم من يُريد أنْ ينتقم من إنسان، أو من شعب، ومنهم من يريد أنْ يتزوّج من أجمل النساء، ومنهم من تُريد أنْ تتزوج من الممثل الفلاني، وهذه الأهداف غير معقولة. فالدعاء يجب أنْ يكون واقعيا ومناسبا لك، حتى يتحقق.
كما أنّ البعض غير مؤهل عقليا ونفسيا، أو تاريخيا لذلك الشيء الذي يطلبه في دعائه. فليس العالم ألعوبة للبشر، يأخذ فيها الواحد فينا ما يريد وما يشاء. بل هناك مدبِّر الكون مقسّم الأرزاق بقدر وبعلم. وهذا لا يعني أنْ يجلس الإنسان وينتظر هدفه أنْ يأتيه. بل يجب أنْ يتعلّق وعينا بسؤال الله تعالى. لأن إرادة الإنسان تكون قوية، بالاستعانة بإرادة الله. وكلّما مارس الإنسان سؤال الله كلّما اكتسب عزة، وكلما ابتعد بالضرورة عن رفع الشكوى للناس. بدعائك لله أنت رابح، رابح في كل الحالات، إنّ لم تحقق هذا سيتحقق ذاك. عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال" ما من مسلِمٍ يَدعو، ليسَ بإثمٍ ولا بِقطيعةِ رَحِمٍ إلَّا أَعطَاه إِحدَى ثلاثٍ: إمَّا أن يُعَجِّلَ لهُ دَعوَتَهُ،وإمَّا أن يَدَّخِرَها لهُ في الآخرةِ،وإمَّا أن يَدْفَعَ عنهُ من السُّوءِ مِثْلَها " البخاري في ((الأدب المفرد))
الدعاء واليقين
من أهم شروط استجابة الدعاء العزم في المسألة والقطع فيها. قال رسول الله:" إذا دَعا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، ولا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ فأعْطِنِي، فإنَّه لا مُسْتَكْرِهَ له" صحيح البخاري ٦٣٣٨. فكلّما كان الدعاء واضحا وصريحا في طلب الحاجة من الله، وحرص الإنسان على طلبها وامتلأ القلب باليقين بغير تردد وشك وارتياب كان أقرب للاستجابة. وضعف اليقين يتمثل في أنْ يعتقد الإنسان الذي يدعو، أنّه ليس أهل للرزق، والصحة، والأولاد فهذا ضعف في الدعاء، لأنّ فيه شك، ولا يصل إلى درجة اليقين. فأنْ يدعو الإنسان بيقين معناه: أن يكون واضحا فيما يريده من الله، محددا مسألة ورغبة بعينها، متيقنا في استجابة الله، فالذي يعرف ما يريد وقد حدد مطلوبه ومقصده على نحو دقيق ويطلبه من الله على نحو قاطع ويقيني سيستجيب الله له.
كأن أقول في دعائي: يا الله يا رازق، يا رحمان: أرزقني وارحمني واحفظني إنك أنت السميع العليم. فعليّ أنْ أتلفظ بهذا القول وأعي ما أقوله في دعائي مستحضرا في ذهني أنّ طلبي موجها إلى الله. وأتيقن بأنّ الله سيستجيب لي. وبعدها أوقف في ذهني جميع الشكوك أو الظنون التي أكون أنا سببها المباشر. أما بعض الوساوس الطبيعية التي تأتي على الإنسان لا تؤثر على استجابة دعائك، لأنّك لم تتعمدها بقلبك. وبعبارة أخرى واضحة: تلفظ بالدعاء بيقين مع حضور ذهني دون أنْ تشك على نحو إرادي في استجابة الدعاء، انطق الدعاء بيقين وكفى دون أنْ ترتاب على نحو متعمّد وإرادي.