من وحي سورة الكهف 1

خلف سرحان القرشي

علم الخضر وجائزة نوبل.

.........

(علم الخضر وجائزة نوبل)، عنوان لافت، يشي بأن كاتب هذه التأملات قد فقد البوصلة في أحسن الحالات، أو عقله في أسؤوها! أليس كذلك؟

وإلا فما علاقة (الخضر) بجائزة نوبل؟

ولكن لم لانتحلى ببعض الصبر؟ حتى نصل إلى نهاية المقال!

بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ.

وردت كلمة(الرحمة) وبعض مشتقاتها في هذه السورة الكريمة سبع مرات.

قال تعالى /

1. (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)

2. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)

3. (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا)

4. (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)

5. (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)

6. (..... فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ..... )

7. (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

وللرقم سبعة دلالته ورمزيتة وتميزه من بين كل الأرقام، ويؤكد مانقول، ماقاله حَبّْرُ الأمة عبد الله بن عباس - ترجمان القرآن- حيث قال رضي الله عنه عندما سئل عن ليلة القدر أي ليلة هي؟

فقال: (إني لأظن أين هي، إنها ليلة سبع وعشرين، فقال له عمر بن الخطاب: وما أدراك؟ فقال: إن الله تعالى خلق السموات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وجعل الأيام سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، وجعل الطواف سبعاً، والسعي سبعاً، ورمي الجمار سبعاً).

والتكرار في حد ذاته كما ذكرنا في حلقات سابقة، يستدعي الأهمية، ويسترعي الانتباه. فمابالك إذا كان التكرار سبعا؟

إن ورود كلمة (رحمة) وبعض مشتقاتها سبعاً في سورة واحدة - هي واسطة العقد ل دقكتاب الله الكريم، حيث جاءت في منتصفه-، لهو أمر يحتمل الكثير مما يجدر بنا التأمل فيه، والتطرق إليه، ومنها دون شك عظمة رحمة الله عز وجل، وعلو شأنها، ومقدار احتياج العباد إليها دنيا وآخرة، إنسا وجنا.

والحاجة لرحمته عز وجل يحتاجها أيضا الحيوان والنبات، الأحياء والجمادات، (المطر المغيث) مثالا، كما أن الاحتياج لها مستمر ودائم دنيا وآخرة. وطالما الأمر كذلك فيجدر بنا الحرص على نيلها؛ سؤالا وطلبا من الله وحده، وابتغاء لما يوصل إليها من حسن الأقوال، وجميل الأفعال، وصدق الاعتقاد.

ومن رحمته عز وجل أنه أنزل في هذه الدنيا الفانية رحمة واحدة فقط من رحماته المئة، وأبقى تسعا وتسعون منها في الآخرة حيث الحياة الحقيقية، والخلود العظيم، والنعيم المقيم، والملك الذي لايبلى.

وهناك تكون الحاجة لرحماته سبحانه ماسَّةٌ جدا، ونفعها أعم وأشمل، أجدى وأبقى.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) رواه البخاري.

ولعله من نافلة القول أن الرحمة الوارد ذكرها في هذه السورة، وفي غيرها ارتبطت بالله عز وجل، وبكونها ترتجى من عنده، وتمنح من لدنه وحده.

وإذا كان اكتساب العلم يقتضي في أحيان كثيرة وجود طلبة ومعلمين، كتبا وكراريس، أقلاما وأدوات، فصولا وقاعات، شهادات وتزكيات، مدارس ومعاهد، أكاديميات وجامعات ونحو ذلك، فإن الرحمة لاتستلزم إلا نية صالحة، ودعوة مستجابة، وحس مرهف مهيأ لاستقبالها، وتفعيلها ضمن قرآن عظيم يمشي على الأرض.

إن مظاهر الرحمة في هذه السورة لاتقتصر على المرات التي ذكرت فيها صراحة، بل هناك أفعال وإشارات ودلالات فيها من صور الرحمة الكثير.

أليس الكهف بمثابة رَحـِم حوى أولئك الفتية مثل ماتحوي أرحام الأمهات الأجنة؟ أو ليس الرحم من مشتقات الرحمة؟

والعلم رحم بين أهله، كما أن النصيحة الصادقة من صاحب الجنة المؤمن لصاحب الجنة الكافر ، هي من الرحم والتراحم.

والأعمال الصالحة هي من صميم الرحمة والتراحم أيضا بين ذوي القربى، وذوي العلاقة، وغيرهم، وجَسَّدَ ذو القرنين ذلك في اقامته للعدل، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، وعونه للقوم الذين طلبوا منه بناء سد مانع من قوم يأجوج ومأجوج.

عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (قال الله تبارك وتعالى : أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرَّحِم ، وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتَتُّه) رواه الترمذي وأبو داود وأحمد في المسند ، وصححه الترمذي والألباني.

إن الحديث عن الرحمة الذي ذكر في آيات هذه السورة بشكل مباشر وغير مباشر، قد يستغرق كتبا، ولاتكفيه حلقة أو بضع حلقات في هذه السلسلة. ولعلنا نعود لبعضه لاحقا بمشيئة الله.

ولكن في هذه الحلقة سنتحدث أكثر عن قوله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).

الرحمة في هذه الآية سبقت العلم، رغم أنه هو الأكثر بروزا في ظاهر السياق، وهنا مايستحق السؤال، ويستوجب التساؤل.

ويبدو لي والله أعلم وأحكم بأن التقديم لــ(الرحمة) على(العلم)، نابع من حقيقة تنبئ بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ عندما لاتدرك كما ينبغي، أو حينما يتم القفز عليها وتجاوزها.

وهذه الحقيقة هي أن أي (علم) لاتسبقه الرحمة، وتحيط به إحاطة السوار بالمعصم، وتتبعه كظله، فهو علم قاصر، بينه وبين الرشاد أمدا بعيدا.

ليس هذا فحسب، بل إن ذلك العلم المتجرد من الرحمة هو في الغالب شر على الإنسان خاصة، والكون عامة.

وعَلَمَنَا القرآن الكريم أنه ليس كضرب الأمثال سبيلا إلى الإيضاح، وتجلية الحقيقة، وتبيانها للناس.

قال تعالي﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ، وقال تعالى:

﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾

إن قصة جائزة( نوبل) العالمية ذائعة الصيت، وقصة مخترعها؛ (الفرد نوبل) هي أفضل مثال يمكننا أن نقدمه نموذجا على ماذكرناه آنفا من أن العلم من غير رحمة شر وأي شر.

(نوبل) رجل أتاه الله علما، ولكنه لم يؤت رحمة! فماذا كانت نتيجة علمه؟

إنها الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، والقتل المروع، والتدمير المريع للبشر والحجر، وأحيانا للطير والشجر.

لقد اخترع (نوبل) بعلمه المجرد من الإنسانية (الديناميت)، الذي استخدم ومازال وسيظل يستخدم في الصناعات العسكرية القاتلة، وفي القنابل الذرية، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، والقتل الممنهج في القصد والعشوائية. وحتى نكون منصفين يجب علينا أن نذكر أن للديناميت بعض محاسن؛ منها حفر الأنفاق، وشق القنوات، والطرق، ولكنها - رغم أهميتها- ألا إنها تتضاءل أمام سيئاته، ففيه إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمه أكبر من نفعه.

ذات لحظة فارقة في حياة (نوبل) هذا خاصة، والإنسانية عامة، استيقظ ضمير هذا الرجل، ورغب في التكفير عن جريمته، وتحسين صورته، ولنا الظاهر، وله مانوى.

واتخذ قرارا بإنشاء جائزة تحمل اسمه (جائزة نوبل)، تقدم سنويا للمبدعين المتميزين في مجالات تخدم الإنسانية كالعلوم والآداب والطب وجهود السلام ونحو ذلك.

وهو بهذا الصنيع والله أعلم يحاول أن يقترب ولو بعض الشئ من جانب (الرحمة)؛ الذي كان غائبا أو مغيبا عند اختراعه لذلك الشر الموسوم بــ (الديناميت).

هذه الرحمة التي كانت في عداد المفقودين، في سيرة (نوبل) قبل إعلانه الجائزة، كانت حاضرة وبقوة عند العبد الصالح / الخضر حتى قبل بدء مسيرته في العلم والتعلم.

يمكننا القول أن (نوبل) أدركته بعض رحمة في مرحلة متأخرة، بخلاف الخضر؛ الذي أتاه الله الرحمة قبل العلم. وليس اللاحق كالسابق.

ومن هنا رأينا الخضر يوظف مظاهر علمه - التي أشارت لها السورة الكريمة - في جوانب(رَحْمِيَةٍ) إن صح الاشتقاق - وهي:

1. خرق السفينة / رحمة بأصحابها المساكين الذين يعملون في البحر.

2. قتل الغلام / رحمة بأبويه الصالحين.

3. إقامة الجدار / رحمة بالغلامين اليتمين.

ويعلمنا القرآن الكريم هنا أن نقدم الرحمة على العلم، والرحمة كنا أشرنا هبة ومنحة ونعمة يعطيها الخالق عز وجل لمن يسأله إياها بيقين وصدق ونية حسنة، ويكون قلبه ولسانه وسائر جوارحه أهلا لها.

ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم.

ومع نهاية هذا المقال أحسب أنكم معشر القراء الكرام أدركتم ماذا أردت بعنوانه؛ (علم الخضر وجائزة نوبل)!

جعلني الله وإياكم من أولئك الراحمون الذين يرحمهم الله، ويفيض عليهم من رحماته دنيا وآخرة، وأن يزدنا علما نافعا متسما بالرحمة، مغموسا فيها وبها.

إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

.................