الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد شرف الله تعالى الإنسان بالعقل لـلتوسل بالتعلم إلى العلم ، وجعل الله الريادة له ولأهله، حتى ذكره بين طيات كتابه الكريم في ثمانية وعشرين موضعا ومنه قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} آل عمران وقوله تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} سبأ
وقوله تعالى {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)} المجادلة
ولهذا حاجّ الله تعالى ملائكته به .
لكن لم يتأت ذلك إلا بعد تعليم آدم الأسماء كلها ، فكان تعلمه طريق الوصول إلى العلم وبعد ذلك عمل به ، ومنه تعلمه التوبة لقوله تعالى{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} البقرة
لقد أداه تعلمه إلى العلم ثم العمل .
إن الذي يدعو إليه العقل والشرع اتجاه عقل الإنسان استهداف العلم بالتعلم.
إن أوقات العلم لا يعوضها شيء آخر ، ولا حسرة على قضائها ، ولا يستشعر تضييعها البتـة.
إن اختيارات طلبتنا اليوم فروع الدراسة بعد الفوز بشهادة البكالوريا تتحكم فيه مجالات العمل ، راغبين في دراسة قصيرة المدى كي يتخرجوا إلى ميادينه ، توخيا للرزق ، فهاجس التخرج والعمل هو المهيمن الآن في اختيار الشعب الجامعية.
إنه من المفترض أن يتشبع الطلبة بحب العلم والاكتشاف والاختراع والعيش بين أمواج البحث العلمي للغرف من بحره العميق العريض الطويل الذي لا ساحل له ولا شاطىء.
إن ما يقع فيه الطلبة اليوم خطأ جسيم ، ينحرف به عن مؤهلاته ومواهبه بسبب غاية الحصول على منصب العمل بكل ضيق أفق.
إن التعلم لأجل العلم وزيادة الكشف هو ما يفضي إلى سوق العمل بكل سلاسة ، فكم من متخرج بشهادة لم يحصل على العمل ، وكم حامل شهادة عمل غاسلا للصحون في المطاعم والكؤوس في المقاهي ، لأن مناصب العمل المناسبة لشهادته ليست متاحة رغم وضعها نصب العين.
وكم من متخرج أودارس قصد تنمية القدرات العلمية والطاقة الدراسية استدعي لتولي منصب مناسب لشهادته لم يضعه في خلده أبدا ، لشدة اهتمامه بالعلم فقط.
وسوق العمل اليوم يعتمد على التبحر العلمي ، إذ يسيل لعاب لهث أرباب العمل وراء حامله بسبب الكفاءة .
وحامل لواء العلم هو من نجده مدعوا بكثرة إلى تنشيط كثير من الأعمال الفكرية والعلمية ومنها الندوات والمحاضرات والتدريبات مـما قد يدر عليه الأموال مقابل ذلك.
فقد تعرفنا على كثير من الـمتولين عن دراسة أقسام ذات صلة بـمواهبهم استعجالا للعمل لم يجدوا مجالات منه وعانوا التصبر الـمرّ وضياع الأوقات انتظارا للفرص الـمهنية.
إن استخدام مهارات العلم بتعلمات سابقة هو من يفتح مجال العمل لا غير.
وهذا القرآن الكريم لم يربط فيه الله تعالى ولا مرة بين التعلم والعمل كهدف مهني له ، وإنـما ندب إلى ضرورة التطبيق العملي لـلتعلمات ، خاصة في الطاعات الروحية ، وتوعد الـمسيئين بالعقاب ، أما استهداف الحياة الـمهنية بـهذا الـمفهوم فلا نجده في القرآن الكريم ، إنما نجد الحث المتواصل على العلم طريقا للتعلم لا تنـقطع.
لذلك تحسس الأولون لذة التعلم بغية الحصول على مزيد من العلوم كلٌ في تخصصه ، بـمعنى أن القرآن الكريم لم يندب إلى ابتـغاء الرزق بالتعلم، لأن الله هو الضامن له بعد العلم.
إن متعة التعلم يزيلها ابتـغاء الرزق والحياة ، ويجعلها مذاقا مرّا.
لذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشد إلى العلم تاركا سياقته إلى العمل بشكل طبيعي ، ففي رواية الترمذي والإمام أحمد وغيرهما {عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ}.
فقد ربط البحث عن العلم بالجنة لا بالـمهن ومدح العلماء قبل مدح العمل ، ليقينه أن العلم هو الذي يقود إليه حتما.
مع أن الإسلام يلح على الدعوة إلى العمل بـما تعلم الفرد والمجتمع ، وهذا شيء آخر غير ما نحن بصدده.
صحيح أن الإنسان ينبغي أن تكون له رؤية لتحقيقها والوصول إليها ، لكن في إطار العلم لا بحرمان نفسه من لذته بسببها.
لا يحسن بالمرء حرمان نفسه ومجتمعه من نفع العلم والتبحر فيه وتسلق معاليه بدافع النظر إلى المستقبل المهني.
فكثير ممن نعرفهم يكسرون وتيرة التعلم وفرصة الوصول إلى قمم العلوم بدوافع جلها غير مهم.
أتحدى من يذكر لي غنيا خلدت الأيام مناقبه لـماله فقط ، إلا إذا كان موظفا له مـحسنا به كأبي بكر وعثمان ، وعبدالرحمان بن عوف رضي الله عنهم ، وحتى من أحسن بـماله لم يصل إلى ذلك إلا بـما تعلمه عن فضل مشاركة المجتمع به.
كما أتحدى من يسمي لي عالـما مخترعا مكتشفا نور البشرية وأسعدها بعلمه لم يؤبّده الدهر.
فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعه أصحابه الذين تعلموا على يديه وحولوا مهارات التعلم
إلى علم ، ثم إلى بطولات حرروا بـها الإنسانية ، ويحدثنا التاريخ عن ابن الهيثم ، وابن سينا ، والخوارزمي ، وإيديسون ، وإينشتاين ، وغيرهم كثير مـمن لم يفش ذكرهم الـمال وإنـما تعلموا ثم علموا ثم أسعدوا البشرية بالعلم.
وهذا اليابان الذي أسرت صناعاته العالم بالتعلم السائر في طريق العلم ، فتحقق الاكتشاف ومعه الـمال.
وهذه الاختراعات المعاصرة لم تخرج إلى العيان إلا بالتعلم الذي اختار طريق العلم.
ولنا أن نتصور لو انحرف هؤلاء الباحثون بالتعلم في مفترق الطرق من اتجاه العلم إلى اتجاه التـفكير في ميدان العمل ، فما يكون مصير صناعات بعض الدول واقتصادياتـها وصحتها وزراعاتـها وغير ذلك ؟
إنه يتحتم على القائمين في السلطة والدولة تنظيم مجالات التعلم والتخصصات ربحا للأوقات والجهود وتوجيها للميول والرغبات.
ويحسن بكل مؤسسة دراسية علمية انتداب مستشارين متدربين على اكتشاف المواهب والتنـقيب عن ميول كل تلميذ منذ الابتدائي ، للتدرج به في تسلق سلم موهبته وميوله ، لكن بشرط تقليص التعداد كي يتمكن المستشار من ذلك ، لأن الكثرة ترهق وتؤبق الأمر من صاحبه ، فلا يطيق السيطرة على الملاحظة والتقدير مع عدد كبير ، ثـم يسلمه إلى المستشار الذي بعده في الطور الآتي إلى أن يتمكن من الـملاحظة الذاتية والبلوغ في تخصصه منتهيات عميقة.
ولكي يتحقق ذلك يتحتم على مسيري الـمؤسسات تنظيم الدورات التدريبية في إطار التنمية البشرية لبرمـجة العقل الباطني لطالبنا لاقتحام هذا الـميدان بقوة معنوية شديدة مـحفزة يلغي معه كل الأفكار السلبية واستبدالها بالأفكار الإيجابية التي ستفتح له بدورها كل الـملفات الإيجابية المشابـهة لها فينـقاد إلى الهدف العلمي بطبيعة بشرية خلاقة.
كما عليهم بذل قصارى الجهود في طمأنة الطلبة على القادم الـمهني لئلا يربكهم التوجس منه وبالخصوص البناء الأسري ، ونحوز دارسين متعلمين ، متشهين للعلم ، لا مترددين على موائد الـمهن أثناء التعلم ، فيسلم لهم العلم والعمل لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه.
قيمة التعلم بين العلم والعمل
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين