من وحي سورة الكهف /15

خلف سرحان القرشي.

الأخذ بالأسباب ج2.

..............

بعد حمد الله عز وجل على جميع نعمه، وكل توفيقه، ثم الصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، نستكمل اليوم بعون الله تعالى ماتحدثنا عنه في الحلقة السابقة من مظاهر وإشارات الأخذ بالأسباب في قصص سورة الكهف.

وفي هذه الحلقة نتوقف عند هذه الجوانب في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح / الخضر، وكذلك في قصة ذي القرنين.

وطَّدَ موسى عليه السلام العزم، وعقد النية على المضي قدما في رحلة علمية يطلب فيها رشدا:

(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).

والنية والعزم سبب من الأسباب. أليست الأعمال بالنيات؟

ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ).

يقول العارفون بالفيزياء الكمية، وعلم الطاقة، أن للنية ذبذبات تؤثر - بأمر الله سبحانه وتعالى - في مجريات الأحداث بشكل أو بآخر.

وينسب للإمام الشافعي رحمه الله أنه استنبط أكثر من ستين فائدة من حديث (إنما الأعمال بالنيات).

وهناك عدة مقولات وحكم، تداولتها الأجيال عبر الأزمان عن قوة النية، وأثرها ولعل من بينها قول الشاعر المتنبي:

إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم.

وقيل: (العمل الظاهر ينم عن النية المبيتة).

موسى عليه السلام كان لديه من صدق النية، ووافر الحماس والإصرار مايكفي لينجح في مهمته بتوفيق الله، والله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم.

عندما كنا صغارا، كان بعض العامة لدينا - غفر الله لهم - يزعمون أن الله سبحانه وتعالى يقول: (اسع ياعبدي، وأنا أسعى معك)، ورغم أنه لا أصل شرعي لهذه المقولة، كما أنها تنطوي على ماقد يقدح في التوحيد ولاسيما توحيد الأسماء والصفات إلا أن لها دلالة تربوية وتوجيهية تتسق مع مبدأ الأخذ بالأسباب.

وفي القرآن الكريم، والهدي النبوي الشريف، مايغني عنها من عظيم القول، ومن ذلك قوله تعالى: (ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).وقوله تعالى أيضا: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). والأخذ بالأسباب لاينافي التوكل، ولايتعارض معه عند أولي الألباب والنهى.

موسى نوى وعزم وتوكل، ولعله نسي الدعاء، وقد أشرنا في الحلقة السابقة إلى أهميته، وكيف أنه فاتحة الأسباب، وأحيانا يكون هو كل الأسباب، ولهذا - والله أعلم - لم يوفق سيدنا موسى التوفيق الكامل والتام في رحلته تلك، فقد عانى وشعر بالتعب والنصب: (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا)، كما أنه ولأمر ما، فقد زاده، ومن المؤكد أنه عانى من الجوع، وإلا لما طلب ومعه الخضر من أهل تلك القرية تضييفهما، فلما رفضوا، وأقام الخضر الجدار، اقترح عليه موسى أخذ أجر، ولعله أراد به شراء طعام.

وظهر عليه السلام متسرعا، قليل الصبر تجاه أفعال الخضر العجيبة والغريبة، ولم يلتزم بما وعده به من التحلي بالصبر:

(قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا).

وبالتالي فلم يتعلم أكثر مما تعلم، وكان بوسعه المزيد.

قال صلى الله عليه وسلم :(رحمةُ الله علينا وعلى موسى، لو صَبَر على صاحبه لرأى العجب).

ومن الأسباب التي أخذ بها سيدنا موسى ويجدر بنا الإشارة لها، اتخاذه فتى يخدمه ويرافقه في السفر ويقضي له بعض شؤونه ومنها: حمل طعامه وتجهيزه له، ونحو ذلك.

كما أن في أخذ موسى عليه السلام للطعام هو من ضمن الأسباب.

ولايفوتنا هنا ذكر أن طلب العلم النافع الموصل للهداية والرشاد، - الذي يَمَّم موسى عليه السلام صوب واحد من مصادره، وأعني بذلك العبد الصالح العَالِمَ المُعَلَمُ، - هو سبب من الأسباب الرئيسة للحياة الطيبة دنيا وآخرة، والتي ينبغي لكل حصيف الأخذ بها. وقد ورد في الأثر أنه مامن مسلم يسلك طريقا يبتغي فيه علما إلا سهل الله له به طريقا إلى الجنة.

أما لو تأملنا داخل أفعال الخضر فسنجد أن ثمة أخذ بالأسباب يمكننا استنباطه من عمل المساكين أصحاب السفينة التي خرقها الخضر.

العمل الشريف والمشروع مطلب وضرورة حياتية لاتستقيم الحياة إلا بها.

ومهما بلغ الفقر بالإنسان وأعيته الحيلة وضاقت به الحال فلاينبغي عليه الاستسلام، بل عليه الجد والاجتهاد والبحث عن أي حرفة أو صنعة أو مهنة يقتات هو منها، ويقيت من يعيل.

ولعل الله عز وجل أكرم أولئك المساكين - وسخر لهم من يخرق سفينتهم لتنجو من سلب وأخذ الملك الظالم لها - لأسباب عدة ومنها أخذهم بالأسباب.

وفي قصة الغلام الذي قتله الخضر لكي لايرهق والديه طغيانا وكفرا، مكافأة لهما قد تكون نتيجة أنهما صالحين، وهل في الكون كله من يصح أن يطلق عليه لقب (صالح)، مالم يكن أخِذاً بالأسباب.

ونفس الكلام يمكن أن نورده عن والد الغلامين اليتيمين في المدينة؛ اللذين أقام لهما الخضر الجدار حماية لكنزهما.

صلاح أبيهما حتما كان يتضمن أخذه بالأسباب، فانتفع بذلك هو وأبناؤه من بعده.

وبعد هذا الإسهاب نأتي إلى آخر قصص هذه السورة، وهي قصة ذي القرنين؛ ذلك الرجل العظيم القوي الصالح الذي كان يطوف البلاد شرقا وغربا بحثا لتحقيق مصالح له ولغيره دنيا ودين.

والسفر المباح نحسبه من الأخذ بالأسباب.

ألم يقل الشاعر:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلى**** وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّيجُ هَمٍ وَاِكتِسـابُ مَعيشَـةٍ ****وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِـدِ

كما أن ذا القرنين أخذ بالأسباب في عدة صور. قال تعالى:

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا. فَأَتْبَعَ سَبَبًا).

وقيل في تفسير كلمة (سببا) هنا أنها تعني العلم.

وهو تفسير له مايعززه من داخل الآيات الكريمة نفسها، حيث نجد ذا القرنين يسخر مالديه من علم ومعرفة في بناء سد/ردم يحول بين القوم الذين طلبوا مساعدته، وبين أعدائهم؛ قوم يأجوج ومأجوج، كما نجده يأخذ بما توفر لديه من أسباب بشرية - تتمثل في علمه وقوته، وفي استعانته بعمالة/فَعَلَة- وأسباب مادية تتمثل في الحديد والنحاس وبقية المواد الخام اللازمة لإقامة السد/الردم.

ونجده يفرغ النحاس على زبر الحديد الحامية لِتُكَوِّنَ كتل ذلك السد الصلدة الصلبة القوية المنيعة التي يصعب اختراقها.

إن ذا القرنين يقدم المساعدة والعون دون مقابل يذكر. وتظهر الآية امتنانه وشكره لله عز وجل

(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).

وقال تعالى أيضا: (قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).

وحمد الله عز وجل، وشكره والاعتراف له بالفضل والمَنِّ من ضمن الأخذ بالأسباب، لأنه في حد ذاته سبب لديمومة الأسباب وفاعليتها.

قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).

ذو القرنين يأخذ بالأسباب من خلال أخذه بمبدأ الثواب والعقاب؛ وهو مبدأ رئيس للحياة دنيا وآخرة، وله مفعول السحر في التغيير والتحفيز. قال تعالى:

(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا. قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).

أخيراً وليس آخِراً نلحظ في هذه السورة الفريدة، كما في القرآن الكريم عموما ربط للإيمان بالعمل الصالح، ومن العمل الصالح بلاشك الأخذ بالأسباب.

قال تعالى:

(قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا).

(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).

جعلنا الله وإياكم من أولئك.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.