الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
لقد خلق الله تعالى البشرية ليتعارف أفرادها ويحتكوا ، قال تعالى في سورة الحجرات الآية رقم 13 {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
وقد تـتـفق أوتختلف حول آراء أومواقف ، حول مال أومتاع ، حول أرحام أوعلاقات ، حول عواطف
أوآداب ، وغيرها من مجالات الاحتكاك ، قد يحدث أثناءه تجاوز أوجور، فيصيب طرفا الحيف، فيغضب ثم يصحبه إلى أعماقه حينا أوإلى الأبد.
لكن لن يكون الشعور السلبي صاحبا دون ثمن بل كل من أخفى ضغينة دفع المقابل غاليا من نفسه أوخواطره أوماله أوشرفه أوأهله.
لذلك وضع الإسلام محله بديلا يضمن حياة هادئة مستقرة ألا وهو العفو.
تصور معي أخي القارىء لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل كل بقايا الشرك يوم فتح مكة بالانتقام ، كيف تنطبع الصورة تجاهه من قِبَلِهم ؟
لقد اختار التفضل عليهم فعز في نفوسهم و كبر في قلوبهم و شمخ في أعينهم فأسلم جلهم.
قرأوا العفو في عينيه الشريفتين فقالوا له:أخ كريم و ابن أخ كريم و لو أنه لم يعف عنهم ـــــ ومن حقه الشرعي و النبوي و الرباني ــــ لقالوا : عدو لئيم و ابن عدو لئيم .
عفا عن أبي سفيان رضي الله عنه رغم أنه كان زعيم الكفر المحارب للإيمان وزاد عليه قائلا: " ….. ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ….." فقوي إيمانه و حسن إسلامه.
إن ما تعلمناه في هذه الحياة أن العفو يزيد صاحبه عزًّا والحقد يزيده ذلاًّ ، فإما ذلة عظيمة كالتي بين المؤمن و ربه فقط ، و إما ذلة حقيرة كالتي بين العبد والعبد ، و لذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه "ما ازداد العبد عفوا إلا زاده الله عزًّا".
لا يشعرن المظلوم بالنقص إذا عفا ، لأن الحقيقة أن المعفو عنه شاعر بفضله ، عارف لعلوه ، مقر لدرجته ، معترف بعظمته.
الذي يعفو سيد الموقف رابح التجارة مع الله و مع النفس .
و حق لنا القول :" إن العفو تحضر و الحقد تخلف" ، إن العفو ينم عن علو همة ترفع صاحبها من دركات التنافس على الدنيا إلى درجات التسامي إلى العلا ، لنتذكر كيف كان شعور ذلك الرجل ـــ وكان كافرا ـــ الذي سل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم و هدده بالقتل ثم عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سقوط السيف من يده إثر إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله " لقد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه بعد إسلامه تلك اللحظة.
إن العفو محببك إلى من عفوت عنه ، معبر عن القدرة على الانتقام إما بالله و إما باليد ، لكن العافي احتسب كل ذلك عند الله و هو ما نسميه :" العفو عند القدرة "
كثير من الطاعات قدر الله لها أجورها إلا العفو فإنه استأثر به لنفسه لا يعلم عبد مقداره لأن الله أخفاه عنده مكافأة له ، فيجده في كتابه يوم القيامة وقد لا يعلم مصدره فيسر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال الله تعالى عنه {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} سورة الشورى
فقد يخشى حامل الحقد تجاوز درجة الإساءة ، والله تعالى لم يحاسب عليها إلا بمقدارها فقط ، فكيف يتجاوز العبد ما توقف عنده الرب تعالى ؟
ولذلك كثرت آيات العفو في القرآن الكريم منها:
قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].
ولذلك لا يستحق فرد أخلاقيا حق الدعاء بالعفو إن لم يكن من العافين ، ولا يلومن إلا نفسه إن لم تستجب دعوته ، فقد سبقها برفضه العفو عن آخرين ، والآية الآتية إجابة عنه
قال تعالى {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22].}
فتمام الحياء أن لا يرفع أحدنا يديه إلى ربه سائلا العفو وهو قد تهيأت له فرصة مع أحد إخوانه فلم يفعل ، إلا بالحياء منه تعالى والرجوع إلى الصواب.
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]
فإن العفو هو أحسن ما ينفقه المرء في حياته ، لأن وظيفته عادلت وظيفة المال ، فالصلاة والصيام ينفع المتقرب بـهما نفسه فقط ، أما العفو والتبرع بالمال فينفع بـهما نفسه وغيره ، نتيجته أن وظيفة العفو لها طابع اجتماعي وليس فرديا.
(إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) [النساء: 149]
إن العفو من أساليب إخفاء الإساءة ، فينتشر سرور العلاقات ويختفي سوءها .
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
هذا تنبيه إلى أن العفو إعراض عن سافل جاهل بحقوق غيره عليه ، وترفع المنزلة وسمو الدرجة ، ألا يستحق أن يكون عزا ؟
سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) (آل عمران)
ألا يستحق العفو أن يكون في رتبة الإحسان الذي هو أعلى مراتب العبادة ؟ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه حقيقته فقال {أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ} متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
و ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع إليه أمر في قصاص إلا و يأمر بالعفو ويقول : "والعفو أفضل".
ومن يدري لعل فضلا سابقا كان بين الخصمين ، فوجب النظر إليه وإيقاف الغضب بسببه ، قال الله تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} سورة البقرة
ولا يتهيأن لأي شخص أن إمساك الضغينة صفة للفحولة أوالرجولة أوالتفضيل أوغيرها من صفات التفاخر ، فإن الأفضل عند الله هو التـقي ، والتقوى جعلها الله مرتبطة بكثير من الفضائل على رأسها العفو. فقد قال تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 13 سورة الحجرات مع قوله تعالى{ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 237 سورة البقرة
ولا يخيلن لطالب العفو هوان لدى خصمه ، بل هو رفعة عن تضخيم الخصومة ، وسحب الخطة من تحت أقدام الشيطان لئلا يفعل به وبأخيه ما يتوجه عند إبليس.
ولأن الإنجاز ينتج السعادة فإن العفو من منابعها الصافية العذبة ، لأنـها تزيح عن الإنسان آلام التخطيط للانتقام ولو فكريا أومعنويا ، فيميط بـها الفرد هما بالليل وتدبيرا بالنهار.
لقد قابلت بعضا ممن يستهويهم الحقد ، ويشغلهم عن العفو ، بتصلب غضبهم ، غافلين تماما عن عظيم فضل الله ينتظر منهم عفوا فقط عن إساءات سابقة ، وياليتهم أدركوا قيمة ذهبية لمجرد كلمة ينطقون بـها ، لا يكلفهم ثمنا ولا عطاء إلا تنازل لله تعالى ، وحياء منه أن يتمسكوا بكبرياء هي له تعالى فقط.
وقابلت من جهة أخرى بعضا ممن فهموا حقيقته ومنزلة ثوابه ، حتى قال لي أحدهم : قد عفوت عن قاتل أبي بعدما فهم مقصد قوله تعالى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ............... (178)}
إن الإباء لم يدرجه الشارع في أحكامه إلا مع عناد كفر أوهتك عرض أوإفساد أرض ، أوتمرد على دولة ، أما بين البشر فقد ندب إلى تنازلات تحقق حسن العلاقات .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير العفو إذا أوذي في شخصه ، أما مع إفساد في النظام فلا عفو ، ومع ذلك ندب إلى التعافي في الحدود إن لم تصل الدعوى القضائية إلى الحاكم.
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَافَوْا الْحُدُودَ قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ، فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» رواه النسائي وغيره
إن العفو تضامن مع إنسانية في حاجة إلى إعانة على النفس ، تكافل بين بني البشر في إلحاح على صدقات معنوية ، تكفل ببني آدم ضد الشيطان الذي قال عنه تعالى { لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)} سورة النساء
إن العفو طرد أفكار سلبية تفتح كل الملفات المشابـهة لها من جنسها في العقل الباطن فيضيق صاحبها بـها ذرعا ، ويعيش في قلق دائم ، لا يخرجه منه إلا عودة إليه ، ليفتح له كل الملفات الإيجابية المشابـهة له من جنسه ، فيسلم لاطمئنان دائم يبعد عن نفسه الحرج والضيق ، وبه يتعالى عن محقرات الأحقاد.
ومهما يكن فإن العفو يبقي ذلك العز لدى منفقه ، بل ويضفي على متلقيه أمنا من وجل الانتقام، ويحيي فيه الضمير بالندم على الفعلة التي أردته بين فضائل خصمه حيث اختار أجر الله على الانتقام .
الـــعــــفــــو عِــــــــــــزٌ
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين